جزيرة الفصح.. ومستقبلنا المظلم

عام 1722م وصل أسطول هولندي إلى جزيرة صغيرة عقيمة من الشجر ومتصحرة، حتى أنهم ظنوا تلالها العارية كثبان رمل، لما اقتربوا دهشوا بمنظر معروف إلى اليوم: مئات التماثيل الصخرية في جزيرة الفصح Easter Island، بعضها بارتفاع بيوت أمستردام.

كتبوا: «كيف لهؤلاء القوم أن يبنوا تلك التماثيل بلا خشب ولا حبال قوية؟ ليس لديهم خشب للوقود ولا ماء عذب يمكن أخذه عند الإبحار».

نعم، تساؤل وجيه، وكيف بنوا تلك الأصنام الهائلة؟ لو رأيتها لظننتَ أنها سقطت من السماء.

درس العلماء جغرافية المنطقة واكتشفوا أن الجزيرة في أزمان بعيدة كانت تحفل بالماء والخضرة، ذات تربة بركانية غنية نبتت منها غابات من شجر نخليّ سميك. ما الذي محا هذه الطبيعة؟ كارثة مثل وباء أو بركان أو جفاف؟

لا، البشر فعلوا ذلك بأنفسهم.

سُكِنَت هذه القرية في القرن الخامس الميلادي من قومٍ أتوا بمحاصيلهم وماشيتهم، أتوا بالكلاب والدجاج والقوارض وقصب السكر والبطاطا الحلوة والجزر، حول الجزيرة تقافزت ثمار البحر بوفرةٍ مبهجة، سمك وفُقَمٌ وسلاحف ونورس، في 5 قرون تضاعفت أعداد السكان حتى وصلت 10 آلاف شخص وهو رقم كبير لجزيرة صغيرة مساحتها 165 كيلومتراً مربعاً.

بعد أن استقروا بدؤوا في تقديس أجدادهم فبنى بعضهم تمثالاً وبنى آخرون ثانياً وهكذا، وازداد هذا على مر الزمن، فكل جيل يطاوِل سَلَفه في البنيان، وهذا تطلّب المزيد من الخشب والحبال لقص الحجر وسحبه إلى القرية ليُنحَت، قطعوا الأشجار أسرع مما تنبت، وزاد الطين بلة جرذانهم التي أتوا بها كطعام، فقضت على البذور والشتلات، وما أتى عام 1400م إلا وقد أُبيد الشجر.

ربما تعتقد أنهم نظروا للكارثة المحدقة وتوقفوا عن تدمير بيئتهم والمخاطرة ببشر المستقبل، لكن لا، فالذين قطعوا الشجرة الأخيرة رأوا عياناً أنها الأخيرة! ورغم ذلك قطعوها. اختفى الظل، باتت كلمة “خشب” مقدسة في لغتهم، اندلعت معارك على البقية القليلة منه، أكلوا كلابهم وطيور الجزيرة، ولما مُحيت الحياة الحيوانية تماماً زادت الوحدة الموحشة بالصمت الثقيل الذي خلا الآن حتى من صوت الحيوان، وأتت الأجيال الجديدة لترى جزيرة شبه ميتة دمر فيها البشر بيئتهم بأنانية مدهشة وتركوا الدمار لبشر المستقبل (كما نفعل اليوم)، اختفت سقوف البيوت فلجأوا إلى الكهوف، صارت بيوتهم، ووصل الهولنديون فرؤوا أناساً وصفوهم بالبؤس والخوف والضعف، وسمعوا القصص عن قرى تحرق بعضها ومعارك دموية وولائم لحم بشري، لم يستطيعوا حتى الهرب من الجزيرة لأن الخشب القوي الذي تُصنع منه السفن اختفى، حتى لما لم يبقَ شيء التفتوا إلى أجدادهم، إلى التماثيل، وأخذوا يحاولون تحطيمها! وُجدت تماثيل مقطوعة الرأس، وتكسير تلك التماثيل العملاقة بلا أدوات معاصرة على يد ثلة قليلة يحكي شيئاً آخر، ليست مجرد حروب بين قبائل، بل بغضٌ عميق شديد لأهل الماضي، كراهية مضطرمة لآبائهم وأجدادهم غير المبالين، ثورة ضد الموتى.

وهذا بالضبط مصير البشرية لو استمررنا على منوالنا في تدمير البيئة وتجاهل تغيّر المناخ: كوارث إقليمية، ثم كوارث كوكبية لا يَسلم منها أحد، وأجيال المستقبل تلعن أهل الماضي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *