كيف يشعر من وُلِد أعمى ثم يستعيد بصره؟
نحن مدينون بالشكر تجاه Marius von Senden وكتابه Space and Sight، والذي يحكي فيه تجارب تبعث على التأمل.
الإبصار بعد العمى: حيرة، ضياع، و….اكتئاب؟
هناك مرض اسمه إعتام عدسة العين، يسلب الإبصار، أحيانا منذ الولادة، عرف الطب الحديث علاجها بالجراحة، وكانت قبل ذلك حُكماً أبدياً بالعمى، أجرى الأطباء عمليات كثيرة لإزالة هذا المرض ما أرجع حاسة الإبصار للمصابين، وفي الكتاب يسجل سندن تجارب المصابين بعد أن صاروا مبصرين لأول مرة في حياتهم، تحديداً تعاملهم مع المساحة، ووجد الأطباء أن غالبيتهم لم يكن لديهم أدنى فكرة عن مفهوم المساحة، كالشكل والمسافة والحجم! أحدهم لم يعرف الفرق بين العُمق والاستدارة. قبل العملية أعطى الطبيب مكعبا وكرة للمريض، يلمسهما بيده ولسانه ثم يقول: هذا مكعب، هذه كرة. بعد العملية يضعهما أمام المريض (بدون لمس) ويسأله: ما هذان؟ فلا يدري.
ربطَ المرضى بين الأحاسيس بشكل غريب أحيانا، فلما سُئِل أحدهم عن ليمونة وشكلها قال: هي مربع. لأن حموضتها لذعت لسانه، وشبّه هذا بمربعٍ لمسه ووخزَ باطن يده فشابه بين الإحساسين ومن ثم الجسمين.
أحدهم لم يعرف شرح فرق الحجم بين الغرفة التي هو فيها والمنزل، يعرف أن الغرفة جزء من المنزل لكن عقله لم يستطيع تخيل أو تصوُّر كيف يكون البيت أكبر حجما. امرأة قيل لها: مثّلي لنا بيديك حجم أمك. وبدلاً من أن تمد وتباعد بين ذراعيها لتقرب حجم إنسان بالغ فتحت أصبعين وقالت: هكذا.
لمن يبصر بعد عمى فإن الإبصار هو مجرد شعور، شعور فائض يغرق فيه، لكنه شعور بدون معانٍ كالمعاني التي يفهمها من وُلد بصيرا، لما أبصرت فتاة لأول مرة وضعوا أمامها لوحات فنية، نظرت ثم أشارت باستغراب: لماذا يضع الرسام هذه البقع الداكنة في كل مكان؟ نظرت أمها لما تشير إليه ابنتها ثم أجابت: ليست بقع، هذه ظلال، ويضعها الرسام ليُظهِر شكل وحجم الشيء، وإلا بدت الأشياء مسطحة. ردت الفتاة: لكن هذا شكل كل شيء لي، كلها مسطحة.
مشكلتهم مع المسافة هي التي تعلمنا عن طريقة تفكيرهم، ولننظر إلى ضرير صار بصيراً بعد العملية وأخذ يحاول فهم والتعامل مع مفهوم المساحة، من طرقه أن يرمي حذاءه ثم يمشي نحو الفردة ويحاول الاستيعاب، لكن حتى بعد 3 أسابيع من ذلك عجز عن فهم المسافة، فالمفهوم يتوقف عند المساحة البصرية، تلك الرقاع العريضة من الألوان التي تعبئ آفاق رؤيته، لا يفهم كيف يمكن لجسم (كرسي مثلاً) أن يخفي أسفله جسما أصغر (قطة)، وأن القطة يمكن أن توجد بدون أن يراها. بعد فترة من هذه التجارب تتضح حقيقة ضاغطة مزعجة، العالم أضخم بكثير جدا مما كانوا يعرفون، وقد ظنوا (أي العميان الذين صاروا يبصرون) ببراءة أنه ومساحاته يمكن التعامل معها وتخيلها بشكل بسيط. يزعجهم اكتشاف أنهم كانوا فترة عماهم مكشوفين للجميع، أحيانا بشكل غير جذاب، بدون علمهم أو موافقتهم. هذه الحقائق موتّرة لدرجة أن عددا منهم يتراجع عن استخدام الحاسة الجديدة ويعود للمس باللسان، ويدخل دوامة من اليأس وفقدان الاهتمام.
أبُ دفع للعملية وامتلأ بالأمل أن ابنته ذات ال21 عاما ستبدأ حياة جديدة حافلة بالفرص والآمال، تفاجأ أنها صارت تغمض عينيها كلما أرادت استكشاف طريقها في البيت، خاصة عند الدرج، وتصبح في أسعد حالاتها عندما تسدل جفنيها وتعود لعالم الظلام الذي أراد إخراجها منه.
صبي عمره 15 سنة لم يتحمل العالم الجديد، وكان يعيش في ملجأ للعميان وقد عشق فتاة في الملجأ، وقال: لا أتحمل أكثر من ذلك، أرجعوني للملجأ، إذا لم تفعلوا فسأقلع عينيّ بنفسي.
الأعمى أفضل أخلاقاً؟
حتى عندما يتعلم الإبصار فإن هذا يغير حياته، يعلق طبيب على فقدان المبصر الجديد لتلك السكينة التي ترافق إنسانا لم يبصر قط، الرجل الذي يرى الآن يبدأ يشعر بالخزي من نفسه السابقة ومن عاداته، يصير يهتم بمظهره، يلبس الأنيق، يركز على العناية الشخصية، ويحاول ترك انطباع حسن لدى الآخرين. حتى الأخلاقيات تتأثر: المولود أعمى لا يكترث بالأجسام والأشياء إلا لو كانت قابلة للأكل، لكن الآن تظهر قيم جديدة، مشاعره وأفكاره تتغير، بعضهم يبدأ يشعر بالحسد، يغش، يسرق، يحتال.
ليست كلها سلبية، هناك من ينغمسون في اكتشاف العالم الجديد، بدءً بأنفسهم، فتاة بعد أن أزالوا الضمادات عن عينيها رفعت يدها أمامها بتعجب، حدقت فيها، قربتها وأبعدتها عن وجهها، عكفت وفردت أصابعها، وظلت مدهوشة من ذلك. فتاة أخرى حادثت صديقتها بحماس قائلة: الرجال ليسوا كالأشجار كما كنت أظن! واندهشت أن كل زائر له وجه مختلف. شابة ابنة 22 سنة اجتاحها شعور غامر لم تتحمله لما استعادت الإبصار، فأغمضت عينيها أسبوعين، ثم فتحتهما وقالت: يا الله! ما أجمل كل شيء!
كالعادة …………. كاتب مبدع ، شكرا يا ابوعبدالله
شكرا حفظك الله عمي الغالي د\فهد، أسعدني مرورك.
سبحان الله، الحمد لله على البصر.
نعمة ولله الحمد، وإن كان العمى منذ الولادة ليس شراً خالصا كما كنا نظن، ففيه بعض المحاسن، منها هذه الطمأنينة والسكينة التي يصفها كاتب الكتاب المذكور، والمبصرون كثير منهم يعيش في قلق وتوتر مستمر صار جزءً من حياتهم اليومية. لكل شيء ثمن.