تقييم Matrix Resurrections، ونظرة في فلسفة The Matrix

تنبيه: هذا التقييم يحوي حوارق (تفاصيل قد تُحرق الحبكة spoilers).

“مستر أندرسون!!”

زمجر بها الضابط سميث وفي يده المسدس وفي عينيه نظرة نارية مسلّطة على توماس أندرسون. أو…هل هو الذي صرخ بها فعلا؟ أم أنه وهم؟ هل عقل نيو يتلاعب به من جديد؟

لحظة بديعة في فلم The Matrix Resurrections، وهو فيلم لن تفهمه إلا إذا رأيت الأجزاء الثلاثة الأولى واستوعبتَ رسالتها المبطنة وقرأت ما دار حولها من نقاش (كلها أمور يُضمّنها الفيلم هنا! أي لا يكفي أن ترى الأفلام بل أن تفهم الطبقة الفكرية الفوقية meta المحيطة بها).

أول هذه الأفلام هو The Matrix (1999م) والذي ما يزال من أعظم الأفلام في التاريخ، يجمع بين الفلسفة والإثارة والمؤثرات والحبكة والحوار بشكل ساحر، وحتى كلمة Matrix دخلت التداول اليومي في اللغة وراجت بين الناس كصفة لمنظومة أو مجتمع أو بيئة عبارة عن وهم أو سجن لا تشعر به، وإذا قيل “فلان استطاع أن يهرب أو يستيقظ من الميتريكس” يُقصَد أنه رأى الحقيقة ورفع الغشاوة عن عينيه وصار بصره حديداً، وهذا الفرق بين ميتريكس وبين الأفلام الأخرى في نفس الصنف، هناك رسالة محددة يود المخرجان أن يعبرا عنها، ثارت حولها تفسيرات كثيرة، من أبرزها الثورة ضد الرأسمالية والاستهلاكية والمادية، كابوس ابتلع الحضارة الغربية وخاصة الأمريكية وما يزال يغلف الناس بوهمٍ عظيم لا يفيقون منه إلا نادرا، ويظل كلهم على عجلة الهامستر واضعا هدف حياته العمل الشاق من أجل الشراء والامتلاك، كابوس لا يراه، وهمٌ لا يدركه، سجن لا يبصر قضبانه، ومهما شُرِح له أن هناك قيم أعلى من العمل والشراء لا يستوعب، فكل شيء مجند هناك للتبشير بهذه الفلسفة القاتلة: الإعلام والسياسة والمجتمع والجامعات، كل شيء، لا مفر، إنهم في عالم من الوهم لن يدركوه إلا بشبه معجزة. إنه وضعٌ دستوبي جهنمي بائس، ونراه اليوم، إننا نرى الميتريكس.

المشهد الشهير في الفيلم الأول، نيو يتعلم كيف يتفادى الرصاص في الصراع الشرس مع ضبّاط الميتريكس

ما هي الأفكار الفلسفية الرئيسية في السلسلة؟ لننظر إلى بعضٍ منها:

  1. الاستهلاكية: الاستهلاكية نظام اجتماعي واقتصادي يحثك باستمرار أن تشتري وتشتري بشكل متزايد يفوق حاجتك، الاستهلاكية مطلب هام للرأسمالية، فالتجار والمصانع والشركات لكي يحققوا الأرباح يجب أن يبيعوك أشياءهم، لكن لو اكتفيت فقط بما يسد حاجتك لتأثرتْ أرباحهم، لذلك يجب إغراؤك وحثك باستمرار أن تشتري، يجب إقناعك أو حتى ترهيبك أن حياتك ناقصة بدون تلك الأجهزة أو السيارة أو الجوال أو التلفاز أو الجواهر أو الملابس، ولعل هذا المقصد من المقارنة الشهيرة في الفيلم الأول بين مُواطن الميتريكس والبطارية، فالمواطن الاستهلاكي كالبطارية للجهاز الرأسمالي، يمتص مالك وطاقتك حتى تنضب، حينها يلفظك ويبحث عن بطاريات أخرى. هذا لا يمكن أن يتم بالقوة المفرطة وحدها، بل أقوى طريقة لتحويل الشخص إلى مستهلك يمد المنظومة الرأسمالية بالمال هو إقناعه بصحة وضعه الاجتماعي والاقتصادي، وهنا يقترب الفيلم جداً من نظرة “كارل ماركس” التي ترى أن الطبقات الثرية تستغل الطبقات العاملة، فيجب أن تتضافر عدة مؤسسات – مدارس، جامعات، إعلام، إلخ – لكي تبث رسائل لا تتوقف تقول أن العمل الشاق والشراء الهوسي قرينان رائعان، وأن استئثار فئة صغيرة بالثروات واضطرار عامة الناس أن يعملوا في وظائف عادية مدى الحياة – وظائف تسحق آمالهم وطموحاتهم – لهو الوضع المعتاد الطبيعي الذي يجب أن يكون. لذلك لا ترغب الطبقات الثرية في بعض الدول الغربية في تعليم وتثقيف عامة الناس، بل فقط يجب تعليمهم كيف يؤدون وظائفهم، لا أن يكتسبوا الوعي.
  2. صحراء الواقع: تكلم كتاب Simulacra and Simulation (وهو أهم كتاب أثّر على صانعي ميتريكس) عن الواقع المعاصر وكيف أننا انتقلنا من عالم مُحاط بتمثيلات لأشياء إلى عالم كامل أساسه تلك التمثيلات التي صارت حقيقة جديدة في ذاتها، مثلاً لا تستطيع أن تعيش كما عاش أوائل البشر في الطبيعة تصطاد غذاءك وتزرعه، لذلك فإنك تعمد إلى رف المنتجات الصحية في السوبرماركت لتحاكي معيشة طبيعية وتجني ثمارها، هكذا صرتَ تعيش في محاكاة للواقع. مثال آخر هو الرياضة، ففي الأحقاب الماضية كان الإنسان كثير الحركة، ولذلك يَقوى الجسم وتظهر الفوائد، لكن اليوم بدلاً من الجري وراء الطريدة أو الهرب من السباع فإن الإنسان يهرول للصحة، وظهرت ثقافة كاملة للهرولة من ملابس وأحذية ورباطات رأس وحاملات جوال (لكي تسمع الموسيقى) وعاكسات ضوء (لتحمي من السيارات) و و و، فصارت الهرولة للصحة ليست تمثيلاً للجري القديم فقط بل تحولت إلى عالم وحقيقة مستقلة بذاتها. هذه الأمور جعلت الواقع نفسه ينحسر إلى شبه الزوال، حتى صار كالصحراء، بينما التمثيلات والرموز صارت العالم الذي تعيشه، ولذلك تسمع عبارة “مورفيوس” عندما رحّب بنيو وقال: «مرحباً في صحراء الواقع» (“Welcome to the desert of the real”).
  3. كهف أفلاطون: هذا مَثَلٌ ضربه أفلاطون في كتابه “الجمهورية”: هناك أناس مسجونون رُبطوا بجدار في كهف، منذ وُلدوا وهم كهذا، يقابلون جداراً، وخلفهم نار تصنع ظلالاً على الجدار، يأتي أراجوز لا يرونه ومعه الدمى فيمثل عدة أشكال وحركات بالدمى فينظر الناس إلى الجدار ويرون تلك الظلال ويعطون كلاً منها اسماً، هذه الظلال هي واقع السجناء وحياتهم اليومية، لكنها ليست تمثيلاً واقعياً للعالم الحقيقي، هي مجرد شذرات من الواقع نستطيع إدراكها بالحواس، بينما الحقائق لا تُدرَك إلا بالعقل والمنطق. هذا مَثَلُ “نيو” بالضبط في الفيلم الأول عندما سُحِب من عالم الوهم إلى عالم الواقع: كل شيء ظنّ أنه حقيقة اتضح أنه وهم. الأكل والروائح والمناظر والمحلات كل شيء، لم تكن حقيقة، مجرد رموز وتمثيلات للأشياء الحقيقية، صُنِعت من النظام الثنائي واحد و صفر، لكنها أضحت أكثر واقعية من الأصول التي تمثّلها….
  4. الحقيقة أم الوهم؟ ….حتى إن الكثير ممن سُحِبوا من الميتريكس إلى العالم الحقيقي فضّل أن يعود إلى عالم الوهم!! وهذا يحثني أن أسألك: في خيار بين الوهم والواقع ماذا ستختار؟ الكل سيقول: “سأختار الحقيقة طبعا”، وهذا نفسه وهم! لا، لن تختار الحقيقة المُرّة على الوهم اللذيذ بالضرورة، ليس مضموناً أن تختار مشقة تعريف الناس بالحقيقة رغم ما سيأتيك من أذى مقابل عيشة هادئة هانئة وسط غيوم الوهم الوردية، الأرجح أن فقط نسبة قليلة منا ستختار الطريق الأصعب أي الحقيقة وما يتبع ذلك من ألم وخوف وصبر. وهذا يجر إلى سؤال آخر: عندما تخرج من الميتريكس – عندما تغادر أي عالمٍ كاذب واهم – إلى أرض الحقيقة والحق، هل ستضع على عاتقك أن توقظ الناس من سباتهم هذا كما اضطلع بها نيو؟ أم ستتركهم حالمين؟ مجرد تبيانك للحق قد يجعلك عدواً لهم، بل قُتِل أناس بسبب ذلك! والتاريخ البشري مليء بهذه القصص.

هذه بعض الأفكار التي توضحها سلسلة ميتريكس أن تبيّنها للناس، لكن ليس بشكل وعظي مبتذل فج بل بحذاقة وحذر و…متعة! السلسلة تأخذ المتعة إلى أقصاها، ليست منهجاً علميا يشرح نظريات اجتماعية جامدة، بل يستخدم لذة المشاهدة ليوصل الرسالة، وهذا من أصعب الأمور، أن تصل لهذه الدرجة من التوازن بحيث لا يطغى أحد الجانبين على الآخر، وتركيزي اليوم في هذه التقييم على الجزء الجديد من السلسلة وهو Matrix Resurrections.

الضابط سميث، شرير من صُنع الذكاء الصناعي، يطارد بلا يتوقف، أم هل يمكن إيقافه؟ قتال ضاري لا يتوقف بينه وبين المقاومة البشرية وعلى رأسها نيو.

عندما يصرخ سميث “مستر أندرسون!” وترى المفاجأة والفزع على وجه توماس أندرسون (أم هو نيو؟) ترى مفهوماً مخيفا بحق: كابوس لا تستيقظ منه. مضت 20 سنة على تلك الأحداث كما يتذكر توماس وكما يشعر ، لكن الآن…عادت؟ هل هذا سميث فعلا أم هو نوبة ذعر أخرى بسبب مرض القلق anxiety الذي يعاني منه توماس؟ القلق المرضي من أعراضه نوبات ذعر panic attacks وفيها يشعر الشخص بمشاعر بشعة مثل زيادة ضربات القلب فجأة والحرارة والتعرق والرعب كأن شيئاً مخيفاً سينزل عليك (موت أو جنون)، وفي أشد حالاتها تفصل الشخص من واقعه وتجعله يعيش كابوساً مريعا لا تستطيع أن تفر منه بسهولة، بل حتى لو عرفتَ عقلياً أنه وهم وأنك بخير فإن مخك ما يزال يحبسك في أتون هذا العذاب ويُشعِرك أن الوهم حقيقة، إنها من أعنف الخدع التي يمارسها عقلك معك، نفس العقل البشري اللامع الذي اكتشف واخترع الكتابة والتخدير الطبي والانترنت والصواريخ الفضائية يستطيع أن يمارس قدراته في الشر ويوهمك أنك ستموت الآن بنوبة قلبية أو تفقد عقلك، مثل توماس أندرسون الذي يرى ضابطا مثل سميث يطارده إلى ما لا نهاية! يضطر نيو أن يراجع طبيبا نفسيا، وهكذا يمضي الفيلم في تراوحٍ عبقري محيّر، فهل تلك الأحداث السابقة التي اقتحم فيها نيو الصعاب مع “مورفيوس” و “ترينيتي” وهم ومجرد لعبة حاسب؟ أم هي حقيقة؟ كلما اتجهتَ نحو أحد القطبين سُحِبت للآخر، إلى أن تعرف الحقيقة.

فيلم يحترم جمهوره ويخاطب العقل والحواس معاً

التقييم: تحفة رابعة تضاف إلى سلسلة أسطورية، لم يستخدموا اسم السلسلة وتراثها من أجل جلب حفنة مال في شباك التذاكر، بل هناك مجهود فكري وفني هائل مبذول، هناك رسالة وحكمة، وطبعا كما تجد في أي فيلم عظيم: متعة بالغة. فيلم بديع!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *