اذهب إلى غابة تويتوبرغ في ألمانيا. اجلس وستشعر بالانشراح، لأنك في طبيعة هادئة حسناء. تحيطك الأشجار، تغني الطيور، يلتمع ماء البحيرة، تداعبك النسمات.
لكن قبل 2000 سنة، تحولت هذه الجنة جحيماً للجيش الروماني المهيب، جيش يخشاه العالم كله، عندما تَلقّى أشنع هزيمة له، هزيمة غيرت مسار التاريخ البشري حتى يومنا هذا. ماذا حصل؟ لنتابع قصة أرمينيوس Arminius.
وُلِد أرمينيوس سنة 20 قبل الميلاد، ولما شبّ التحق بأعظم جيوش الأرض آنذاك: الجيش الروماني. أفضل الجيوش تنظيماً وتدريباً واحترافية، سلاح وعتاد وقوة لم يكد يعرف التاريخ لها نظيراً، عليه قامت الإمبراطورية الرومانية الهائلة. لتعرف رهبة الجيش، كان مجرد سماع الأمم أن الرومان قادمون كافياً لإفزاعهم وإخضاعهم، ينهزمون نفسياً ولو لم تنوِ روما الجبارة إرسال جندي!
صعد أرمينيوس سُلَّم العسكرية بسرعة، وقهر عدة ثورات قامت ضد الرومان في الأقاليم المحتلة، واكتسب خبرة حربية فائقة. عام 9 للميلاد أُرسِل أرمينيوس إلى فيالق يقودها الحاكم الروماني فاروس Varus في ألمانيا اليوم، ورأى أن فاروس يريد قهر القبائل الجرمانية الفقيرة التي رفضت الضرائب الباهظة، وذلك فقط لِـمجد روما.
رحل للقبائل ليكلمهم، وودّعه الحاكم الإقليمي فاروس ظاناً أنه ذاهب لترهيبهم أو التجسس، لكن لا: لما وصل أرمينيوس إليهم ماذا فعل؟ عانق أهله وعائلته هناك. أرمينيوس منهم! إنه من تلك القبائل أصلاً! الذي أتى به لبلاد الرومان اضطرار والده لتسليمه وأخيه كرهائن للرومان طلباً للسلام، وأخذ الرومان الطفلين وسجنوهما، ثم علموهما اللاتينية وشرَّبوهما تقاليدهم، والتحق أرمينيوس بالجيش واحترف أساليب القتال الرومانية، لكن ظل يبغض الرومان الذين أذلوه وقومه، والآن رأى أنهم يريدون سحق أمته كلها، واتخذ قراره: سيقاتل ضدهم.
في تلك الغابات بعد التمام شمله بعائلته كلّم أرمينيوس قادة القبائل المتفرقة وأقنعهم بالتوحد لصد عدوان الرومان. استغربوا: مقاومة الرومان؟ مقاتلة أعظم جيش؟ انتحار! لكن أقنعهم أرمينيوس: “بل تقدرون!”، وهو يعرف كل شيء عنهم. وافقوا على تخوُّف. رجع أرمينيوس وجرّ الرومان لاجتياز النهر موهماً فاروس أنه لا يوجد إلا شرذمة ضعيفة، وما أن اجتاز الرومان النهر حتى وقعوا في الفخ، وانقضت القبائل عليهم من كل جانب، وذُعر الجيش وحاول المقاومة لكن هيهات، فكل أساليبه يعرفها أرمينيوس بأدق التفصيل، وما هي إلا أيام حتى أبيدت 3 فيالق رومانية (15 ألف جندي)، بالإضافة إلى 15 ألف مرافق (مهندسين، صانعي سلاح، إلخ)، ولما رأى الحاكم فاروس الهزيمة المريعة لم يستطع الرجوع بهذا الخزي لقومه، فألقى نفسه على سيفه. وصل الخبر لروما وجنّ جنون الإمبراطور وهو أغسطس قيصر المعروف، وأخذ يخبط رأسه بالجدار صارخاً: “يا فاروس، أعِد لي فيالقي!”.
حدثٌ نادر. عادة لم يُهزَم الرومان هكذا حتى من جيوش كبيرة، فضلاً أن تهزمهم قبائل فقيرة كهذه، وأوقف أباطرة الرومان محاولات قهر تلك القبائل بعدها، وانتهى التوسع الروماني شمال أوروبا، ولو انتصر الرومان لتغيرت خريطة أوروبا، ولكانت ألمانيا اليوم تحكي لغة مختلفة كالفرنسية أو الإيطالية أو الإسبانية، ولما حصلت حرب الثلاثين سنة في القرن السابع عشر بين أمم أوروبا التي أهلكت خلقاً كثيراً، ولَمَا تحارب الألمانيون والفرنسيون كثيراً وهي حروب لم تتوقف إلا بعد انتحار هتلر، بعد تلك المعركة بألفي سنة!
مكث أرمينيوس مع عشيرته في غابة تويتوبرغ الجميلة الهادئة .. والتي كانت ذات يوم أتوناً مضطرماً من السيوف الملتهبة والقتل المشتعل والدماء الساخنة والرؤوس المتطايرة والصرخات الملتاعة.
هناك.. قُهِرَت روما.