هرم “ماسلو” وبقاء “داروين” يتحطمان على صخرة القيم

قال تشارلز داروين إن الهدف الأول لكل الكائنات هو البقاء، وتقول الداروينية إن كل كائن هدفه أن يبقى حياً ليتكاثر، فصار البقاء والتكاثر أهم هدفين للبشر والحيوانات والطيور والأسماك وكل حي، وهذا المبدأ صار ديناً لدى الغربيين.

في القرن الذي بعده وضع العالم أبراهام ماسلو هرمه الشهير Maslow’s pyramid، وهي نظرية أن الإنسان لديه قائمة من الحاجات تتدرج حسب الأهمية ورتّبها ماسلو على هيئة هرم، فقاعدة الهرم وأهم حاجة على الإطلاق هي الضروريات التي لا يعيش الإنسان بدونها كالماء والغذاء والنوم والمسكن، فإذا حصل على الأساسيات هذه انتقل فوقها ليحاول الحصول على المرتبة الثانية في الأهمية وهي حاجات الأمان كالأمن والقوت والمال والصحة، فإذا نالها انتقل لما فوقها وحاجات الطبقة الثالثة هي الحب والانتماء والصداقة والعائلة، فإذا حاز بعضها انتقلت عينه إلى الطبقة الرابعة وهي التقدير والاحترام والحرية والمنصب، فإذا رضي بما لديه منها نظر لأعلى وآخر مرحلة في الهرم وهو ما يسمى تحقيق الذات self-actualization، وهي أن تحقق أقصى قدر مما تقدر عليه اعتمادا على ما يكمن داخلك من مهارات وقدرات، تحقق أحلامك، تلتزم بقيمك.

لنرجع في الزمن الآن، إلى ساعتين من عام 17هـ (641م)، المكان هو مدينة “تُسْتَر” في بلاد فارس، إنها الواحدة بعد منتصف الليل، هناك نهر صغير، وفيه 300 رجل يسبح. لماذا يسبحون ليلاً؟ إنها فرقة فدائية من جيش المسلمين، يسبحون ليتغلغلوا في حصن الفرس المنيع، فبعد حصار المدينة قرابة السنتين سنحت الفرصة وكانت الطريقة الوحيدة للنفاذ هي أن يسبحوا ويدخلوا نفقاً يؤدي داخل الحصن. منظر مهول! لو قيل لأي شخص اليوم أن يسبح في نهرٍ مظلم بضع دقائق لما رغب في ذلك فكيف لساعتين في نفق أسفل الماء ليصل إلى عدو شديد القوة؟ والفرس كانوا أقوى عدو واجهه المسلمون آنذاك، ضُرِبت الأمثال بقوتهم الجسدية وبراعتهم العسكرية، ويقود الحصن أحد أعتى قادتهم وهو الهرمزان. في النفق المظلم غرق أكثرهم ولم يصل إلا قرابة 80، وفتحوا أبواب الحصن ودخل الجيش واشتعلت معركة قُتِل فيها من قتل وحصلت أهوال، وكان ممن استُشهد الصحابي البراء بن مالك.

لماذا فعلوا ذلك؟

ما الذي جعل هؤلاء البشر يزيحون غريزة البقاء جانباً ليقذفوا أنفسهم في هوّة الموت طوعاً؟

القِيَم.

قِيَمُهم تقول إن ما يفعلونه هو الحق، وفي سبيله يعطي الإنسان روحه راضيا، يودع الأصحاب، يتكبد الصعاب و يعاني العذاب بلا تردد ولا إحجام لأن القيم صارت هي المعيار السامي للإنسان.

ترى ذلك عبر التاريخ، ترى القيم تسُود على البقاء، سابقاً عُرِف العرب بالنجدة والكرم، رأوا أنها أهم من الحياة نفسها، فإذا طرق بابك مستجير خائف أو جائع كان لزاماً عليك أن تجيره وتكرمه، تحميه ممن كان يطارده، وإن كلّفك ذلك حياتك. الدفاع عن العِرض حث عليه الإسلام، وبشّر أن من مات دون ذلك فهو شهيد، وفي الغرب العكس، في استفتاء ذكرته باربرا سيلكستون مؤلفة كتاب “The Adventures of a Love Investigator”، سُئل رجال غربيون: هل أنت مستعد أن تموت من أجل حبيبتك أو زوجتك؟ 97% قالوا لا، وليحصل لها ما يحصل، لن يضحي بحياته لها. بعدها يأتون بغطرسة ليعلّموك عن القيم وحقوق المرأة.

هذه الأمور تخالف الطبيعة بأقوى وأعنف طريقة، الطبيعة تقول لك: احفظ حياتك! تحاشَ المخاطر! لا تغامر! لكن القيم تقول:

فَلَا تَخْشَ الْمَنِيَّةَ وَالْقَيَنْهَا…وَدَافِعْ مَا اسْتَطَعْتَ لَهَا دِفَاعَا

هذه الحاجات الروحية هي العامل المفاجئ للبيولوجيا، عنصر يخل بكل أولوياتها، يقلبها على رأسها، ما أن تأتي حتى يضطرب هرم ماسلو، وتنهار أولويات داروين، وعلى هذه الأنقاض تتربع القيم سامقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *