حينما تدوي المدافع، لا يكون الصمت سوى لحظة فاصلة بين الحياة والموت.
أضخم حرب عرفتها البشرية حتى الآن هي الحرب العالمية الثانية، لكن قبلها حصلت الحرب العالمية الأولى التي حصدت أكثر من 60 مليون روح، وكانت تُعرَف باسم «الحرب العظمى» قبل إتيان الثانية، لأن الناس لم يروا أو يسمعوا بحرب بهذا الحجم. ورغم أن الثانية أعظم إلا أنه في منتصف القرن الماضي كان العلم قد تطور قليلاً ليخفف من آثار الحرب، مثل واقيات وأدوية وجراحة، لكن الحرب الأولى حصلت في بداية القرن لما كانت تقنية القتل والتدمير أعظم بكثير من تقنيات الطب والحماية، ولهذا كانت تلك الحرب أعظم وطأة على نفسية البشرية وتحوي مناظر أشنع. لنأخذ جولة عبر الجحيم ونتأمل هذه المناظر من الحرب العالمية الأولى:
- أول حرب تُستخدم فيها الأسلحة الكيميائية. استُخدِمت بكثرة، ولا وقاية من الغازات المستخدمة، فأولاً مسيل الدموع، لكنه كان ضعيفاً، فوضعوا مكانه غاز الكلورين الذي يهاجم العين والأنف والحلق والرئة، ويخنق حتى الموت، استخدمه الألمان أول مرة. ارتاع البريطانيون من شناعته وانتقدوا ألمانيا، لكن اضطروا أن يستخدموه كيلا يخسروا الحرب، وفي أول محاولة كبيرة في معركة لوس عام 1915م كان القصف الكيميائي البريطاني يحتاج الرياح، لكن لم تكن في صفهم ذاك اليوم، فاستقرت الغازات فيما بين الطرفين أو أرجعتها الريح للبريطانيين! أيضاً لم تنفجر كل القذائف، واستغل الألمان هذا فقصفوها وفجروا الكلورين على أصحابه مما صنع كارثة للإنجليز، وزاد الطين بلة أن الأقنعة الواقية بدائية، فصعبت الرؤية فيها، وكذلك سخنت بشدة فاضطر الجنود أن يخلعوها، فقتلهم الغاز.
- اكتشفت فرنسا غاز فوسجين Phosgene، رائحته مثل التبن الرطب، قتل الكثير من الجنود لأنه لا لون له مثل غيمة الكلورين الخضراء التي فروا منها، الأسوأ أن أعراضه تظهر بعد 24 ساعة وليس فوراً، فيقدر الجندي أن يكمل القتال، وفي اليوم التالي يشعر بحرقان العين والفم والكحة والقيء وانتفاخ الحلق وآلام الصدر وضيق التنفس وأعراض كثيرة حتى يموت.
- ماذا يفعل من يسمع انفجار القذائف ويشم رائحة الكيميائيات؟ ردة الفعل الطبيعية: الهروب. وهذا ما فعله جنود فرنسيون لما أصابتهم قذائف كيميائية ألمانية، ففر منهم أعداد ضخمة صنعت فجوة خطرة في خط الدفاع، لكن لوحظ أن من يفر فإن أعراض الغاز أشد عليه! أخف الأعراض كانت عند من مكث في الخنادق المحفورة، لكن ليس في قاع الخندق بل يجب أن يقف بحيث يظهر رأسه (ويكون عرضة للرصاص!).
- أسوأ غازات هذه الحرب: الخردل. لم يقتل بأعداد كبيرة لكنه مخيف، وهو يقتل إذا كان مُركزاً، وأعراضه بشعة، فهو يهاجم الجهاز التنفسي، ولننظر ما تقوله الممرضة فيرا بريتن التي رأت أعراض الغاز مباشرة، فتكتب: “أين من ينادي باستمرار هذه الحرب؟ أتمنى أن يروا الجنود المتسمّمين من غاز الخردل!”، بثرات متنفطة ضخمة، أعين عمياء ملتصقة ذائبة، يكافحون من أجل كل نَفَس يشهقونه، أصواتهم ليست إلا همسات مبحوحة، يقول لها أنه يشعر بحلقه يُغلَق، ولا علاج، سيختنق ببطء حتى يموت، وهو يعرف هذا.
- الدبابات كانت لتوها قد ظهرت في الساحة، وتقنيتها بدائية. منها دبابة فئة مارك البريطانية، اشتهرت بشيء يسمى قناع الشظايا، مخيف الشكل، مصنوع من الحديد والجلد، يلبسه طاقم الدبابة لحماية الوجه، ذلك أن الدبابة سيئة التصفيح، فإذا أصابها قصف حتى لو كان ضعيفاً فلم يكن هناك تقنيات امتصاص الصدمات، فكان الحديد ينفجر في الداخل والشظايا تمزق جماجم الطاقم.
- بسبب ظهور الدبابات وانتشارها، ظهرت الألغام على نطاق واسع، وأول ألغام مضادة للدبابات صنعها الألمان عام 1918م لمقاومة الدبابات الأمريكية، ورغم أنها ضد الدبابات إلا أن وزن أي رَجل كافٍ لتشغيل اللغم ومن ثم التفجير الضخم الذي يمزق كل ما حوله.
- أشهر شيء في الحرب العالمية الأولى هو ما يسمى حرب الخنادق. يحفر الجنود خنادق في الأرض يضعون حولها أكياس الرمل والأسلاك الشائكة، ينزلون في الحفرة ليحتموا من القذائف والرصاص، يبرزون ليطلقوا النار، وهكذا دواليك.
- تخيل الوضع في هذه الحفرة. أين المفر؟ دوي الانفجارات وأزيز الرصاصات حولك لا يتوقف. تحاول أن تقف لتطلق النار على العدو لكن هذا شبيه بالانتحار، فالنيران لا تتوقف، حتى إن القصف وإطلاق الرصاص على الخنادق يستمر أحياناً 24 ساعة متواصلة! يجلسون فيها بالأيام. ماذا يفعل هذا بأعصابك ومخك ونفسيتك؟
- بسبب طول مكوث الجنود في هذه الحفر ظهرت حالة طبية اسمها «قَدَم الخندق»، فأقدام الجنود بسبب استمرارها لفترات طويلة في أسفل الخندق البارد الرطب العطن تبدأ تتحول للأحمر أو الأزرق بسبب ضعف التروية الدموية، وتتآكل الأنسجة، وتظهر الغرغرينا التي تجبر على بتر القدم أو الساق.
- يكثر الموت في تلك الحُفر، بسبب القذائف الصاروخية والغازات والرصاص، ويضطر الجنود أن يبقوا أياماً مع الجثث المتحللة.
- الحُفر مليئة بالقمل والحشرات والأوحال المنتنة. ليس هذا فقط بل من أسوأ المناظر هو الجرذان الكثيرة التي تغذّت على الجثث، على مرأى من الأحياء. تضخمت الجرذان حتى صار بعضها بحجم الأرانب، وزادت جرأتها حتى صارت تُجهز على الجرحى وتأكلهم!
- صارت الجرذان مشكلة، ليس مشكلة عملية فحسب بل نفسية أيضاً، تؤثر على الجنود الذين يرون جثث رفاقهم تلتهمها القوارض هذه، ولم ينفع مع الجرذان والفئران إلا حل واحد: القطط. أتى بعض الجنود بقطة معهم للخندق، فإذا ظهر الجرذ ليأكل الجثث انقضت عليه القطة وقتلته. نجح هذا الحل حتى صار القط رفيقاً لكل الجنود في الخنادق لا يستغنون عنه، حتى إن الحرب هذه رأت أكثر من 500 ألف قط استخدمها الجنود لإبادة الجرذان. بل لاحظوا أن القط يقدر أن يحذرهم من هجمات الغازات الكيميائية، وصار القط بطلاً يفرح الجنود برؤيته.
- في المواقف التي يتعرض فيها الشخص لخطر بالغ فإن الكثير يصابون بحالة نفسية اسمها اضطراب ما بعد الصدمات، وهي شائعة في الحروب، ولم يكن هذا التشخيص الطبي النفسي موجوداً في السابق، لذلك لما تعرض الكثير من الجنود للمعارك المتوحشة أصابتهم تلك الحالة النفسية التي من أعراضها الخوف والأرق والقلق والفرار واضطراب التفكير والكلام، ردة فعل بشرية طبيعية، لكن لم تكن هذه الحالة مفهومة، وفسرها بعض قادة الجيوش أنها جبن وخيانة، فقتلوا جنودهم المصابين بها! ابحث في الانترنت عن thousand yard stare، وهو اسم النظرة على وجه المصاب، ترى عينيه تحدقان فيك بذهول وكأنه يطالع وحشاً. حتى بعد انتهاء المعارك، لو ذهبتَ ورأيت بعض الجنود رأيت تلك النظرة المصدومة على أوجههم، والتي تحكي فظاعة الحرب.