الإصلاح بالفكاهة

قُبِض على الفكاهي بيل كوزبي عام 2015م بتهمة الاغتصاب والتحرش بعدة نساء، وفاجأ هذا الجميع لأنه اشتهر بدور الأب الحنون في مسلسل “كوزبي” في الثمانينات الميلادية، ولم يكن شيء يمس سمعته قبل ذلك، لكن فيما يبدو كان وحشا في السر وملاكا في العلن، أما الغريب فهو أن الذي شهّرَ الحملة ضده والتي انتهت بمحاكمته وسجنه هو فكاهي مغمور اسمه “هانيبال بوريس” ألقى بعض النكت عنه وتضخّمت آثارها على مدى عدة أشهر حتى حدث ما حدث!

الفكاهة كانت لمجرد الترفيه، لكن في عصرنا أضحت ذات تأثير أكبر من قبل، أفضل مثال معاصر هو الفكاهي “ديف شابيل” والذي يمزج فكاهته العبقرية بالإصلاح الاجتماعي، فيناقش باستمرار العنصرية المفرطة ضد السود في أمريكا وكذلك مشكلاتهم الخاصة فيما بينهم، ويسير على خط رفيع لكيلا يفرط في الفكاهة فيعطي المشكلات أقل من حقها ولا يفرط في التعليق الاجتماعي لئلا تتلاشى الفكاهة، موازنة صعبة جدا لكنه يديرها ببراعة مدهشة، لم أرَ أحداً بمثل هذه الألمعية.

تاريخ هذا التقليد قديم، استخدم العرب السخرية في الشعر وسيلة ليس فقط للهجاء بل لمحاولة تغيير الحال إلى الأفضل، فمثلاً بعض الاخلاقيات السيئة انتُقِدت في الشعر، كما قال أبودلامة عن أحد من اشتهروا بإخلاف الوعد:

لِعَلِيِّ بنِ صَالِحِ بنِ عَلِيّ.. حَسَبٌ لَو يُعِينُهُ بِسَمَاحِ

ومَواعِيدُهُ الرِّيَاحُ فَهَل أنـ…ـتَ بِكَفَّيكَ قَابِضٌ للرِّياحِ

لما بدأت البوذية والجاينية تهترئ وتَفسَد في القرن السابع الميلادي ظهر “ماتافيلاسا براهاسانا”، عملً أدبي ساخر بلغة السانسكريت، يضع تلك المؤسسات الدينية على السفود وينتقدها بأسلوبٍ مسرحي، وهو بالضبط ما فعله كاتب “حكايات كانتبربيري” الانجليزية لما بدأ يدوّن هذا العمل الأدبي العملاق عام 1387م وفيه هاجم الرهبان والراهبات لأنهم تركوا تديّنهم ومالوا إلى الدنيا يتنافسون عليها بطمع، ونظير ذلك الأُهجُوَّة الفرنسية قبل بضعة قرون والتي كانت فناً متفرداً في ذاته كرّس له كبار الأدباء أخصب إبداعاتهم منهم عمالقة أدب مثل “لا فونتين” و “موليير”.

ليست الفكاهة للإضحاك فقط، أحياناً هي أقوى وأعمق من الخطب الرصينة والكتب الثقيلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *