معركة مؤتة من أشهر المعارك في التاريخ الإسلامي، عجيبة مليئة بالعبر والتأملات، وبينما في البداية استاء الناس من نتيجتها، وسمّوا الراجعين منها بالفرّار (أي الهاربين) ورموا عليهم التراب، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام صحّح ذلك وقال: “ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله”.
ما تزال المعركة ذات تأثر قوي لدينا، ومن الأحداث الكبيرة التي خرجت منها قيادة خالد بن الوليد للجيش، في استهلالٍ مبشر بفتوحاته العظيمة ضد إمبراطوريتي فارس والروم، وسماه الرسول بلقبه الشهير، وصار خالد أسطورة تتناقل إلى الأبد لدينا، كل هذا رغم أن المسلمين لم ينتصروا في مؤتة، بل لو استخدمنا الألفاظ الرياضية فهي أقرب إلى التعادل.
شيء يتعارض مع الشائع والذي يقضي أن الانتصارات فقط هي التي تستحق الذكر والإعجاب، لكن ترى في التاريخ العكس أحيانا، هزائم تُقدّس! خذ قصة “47 رونن” مثالا، ففي القرن التاسع عشر قررت الحكومة اليابانية إنهاء عصر الإقطاعية لكي يتطور البلد ويلحق بالغرب، ومن القرارات إلغاء طبقة الساموراي تدريجيا، وهم طبقة نبلاء محاربين كانوا حماة السادة الإقطاعيين الذين أرادت الدولة إزالة نفوذهم، وأصدرت القرارات بتحجيم سلطات الساموراي وعطاءاتهم وبدلاتهم، حتى ضاقوا ذرعا، فجمع قائدهم “تاكاموري سايغو” منهم 40 ألفا واشتعلت معارك بينهم وبين جيش الحكومة وبعد عدة أشهر هُزم سايغو وجيشه، لكن منذ تلك المعركة وإلى اليوم تحول إلى بطل قومي، صار رمزا للمقاومة المنضبطة، كقائد نبيل نزيه، وأقيمت التماثيل له، وقال أحد كبار المفكرين اليابانيين جون إيتو: إن هزيمة سايغو آسرة أكثر من أي انتصار.
ظهر فيلم توم كروز “The Last Samurai” عام 2003م، وقوبل بعاطفة شديدة وعشق مدهش في اليابان، وقال الكثير من اليابانيين إنهم بكوا في صالة السينما بحرارة، ليس فقط إعجابا بشخصية قائد الساموراي، بل لأن الفيلم يفهم المبادئ اليابانية، وشعروا بالحنين لتلك القيم التاريخية التي أظهرها الفيلم على السطح بعد أن غاصت للقاع وسط إغراق اليابان لنفسها بالاستهلاكية والمادية في العقود الماضية.
انهزم سايغو يوماً، لكن إشراقة هزيمته تُنير نفوس عشرات الملايين إلى اليوم.. وهكذا بعض الهزائم كأنها انتصارات.