كتاب Immoderate Greatness كتاب رائع من تأليف المفكر ويليام أوفولس William Ophuls خلاصة لموضوع ضخم، وهو الحضارات البشرية ولماذا تندثر، وكل جزء يذكر أسباب انهيار الحضارات البشرية، ووجد من بحثه أن هناك عناصر مشتركة في كل الحضارات البائدة، خطة زمنية لا مفر منها أبدا.
الحضارة ليست مجرد دولة، إنها أكبر..
أول سؤال يجب أن نستهل به: ما هي الحضارة؟
إنها لا تعني الدول المستقلة، بل هي أكبر نطاقا، ويمكن أن تعني مجموع الحضارات البشرية في وقت معين (مثل حضارة الكوكب كله الآن)، أو حضارة أصغر نطاقا مثل الحضارة الرومانية واليونانية والعربية القديمة، إمبراطوريات ضخمة. هذان التعريفان الغالبان.
هذا التقييم يركز على الجزء ٥ وهو الاهتراء الأخلاقي. يبدأ الجزء بما قاله “جون آدمز” ثاني رئيس أمريكي: «يجب أن أدرس السياسة والحرب حتى يكون لأبنائنا الحرية في دراسة الرياضيات والفلسفة والعمارة البحرية ، حتى يتمكن أطفالهم من دراسة الشعر والرسم والموسيقى والخزف والنسيج».
(كل ما يلي هو كلام المفكر أوفولس)
تبدو المقولة محمودة، ولكن لو أن أحفاد آدمز أقبلوا على الفن والموسيقى والبورسلان والتذوق فمن الذي سيحفر المناجم ويبني السدود ويحرس الثغور ويدير المصانع ويعلم الأطفال؟
الحقيقة أن هذا التدرّج من جندي مخلص صابر إلى شاعر مرهف رقيق (أي من العزم والفضيلة إلى التدهور والضعف) هو عامل في اضمحلال كل الحضارات المعروفة. كثير من المفكرين الأوائل ناقشوا تفكك الحضارات، لكن أفضلهم وصفا هو John Bagot Glubb.
خمسة مراحل لكل حضارة، لا فرار منها..
في نظر Glubb فهناك مسار لكل حضارة بشرية، لا تحيد عنه: (١) عصر الرواد أو الفاتحين. (٢) عصر التجارة. (٣) عصر الرفاهية. (٤) عصر الفِكر والعقل. (٥) عصر الاهتراء والانحطاط. هناك سببان يصنعان هذا المسار ومراحله الخمس، والسببان هما:
أولا: كل عصر يصنع الظروف التي تمكّن وجود العصر الذي يليه.
ثانيا: هذا بدوره يصنع جيلا مختلف التفكير والمبادئ.
النتيجة هي حلقة مستمرة من الارتجاع الإيجابي positive feedback loop ، كل من العاملين يغذي الآخر بلا توقف، لا تنتهي إلا عند اهتراء الحضارة.
١– عصر الرواد: الفاتحون يستهلّون إنشاء الحضارة، يتسلحون بالمبادئ العالية كالشرف والأمجاد والشجاعة، يخترقون الغابات والصحاري ويقطعون البحار والبراري، شعلات من الطاقة، يذللون كل صعب لينشئوا امبراطورية. معنويات الناس عالية وهم متوحدون متماسكوا المجتمع.
٢– عصر التجارة: بعد أن تتسع رقعة الإمبراطورية يأتي الاستقرار السياسي، تظهر عوامل مشجعة للإنتاج والتبادل التجاري، تكبر طبقة التجار وتسحب المجد من طبقة الفرسان، ما تزال المبادئ الأولى – الشرف والشجاعة الخ – معروفة بارزة، وبعد فترة من التجارة تتكوّم الأموال لتأتي المرحلة الثالثة…
٣- عصر الرفاهية: المال أتى مكان المبادئ، الحضارة في ذروتها الآن، الناس يزدادون رخاء وتغريهم الملذات، الشباب يريدون المتعة لا المجد، الأجانب ينظرون بانبهار للدولة الغنية المزدهرة، فقط بقايا المبادئ الأولى باقية مما يجعل الدولة تبدو عظيمة منيعة، لكن أسفل السطح: حسد، جشع، كِبر، كسل. في عصر الرفاهية هذا لا يرغب الناس في الحرب، يريدون فقط التمسك بما لديهم من متع وأموال، الموت دفاعا عن البلد يصير مثار سخرية واحتقار، وإذا اضطرت الإمبراطورية للحرب استعانت بالمرتزقة أو دفعت الهدايا والإتاوات للأعداء. ينظر الناس للقتال على أنه نوع من الهمجية غير المقبولة. أيضا من علامات ضعف الحضارة انتشار الرعاية والشؤون الاجتماعية مثل التأمين الاجتماعي والطبي والأعمال الخيرية الخ، فالرفاهية تنتج شعورا بالاستحقاق وأن الكل يستحق الخدمات، فتظهر امبراطورية الرعاية التي تُثقل عليها هذه المصروفات.
٤- عصر الفِكر: تزداد الحضارة ضعفا الآن، فقد فاض الغنى عن سد الحاجات وحتى الرغبات، فصار يوضع في التعليم العالي وطلب العلم، تتطور العلوم، تظهر الحوارات والجدالات والمناظرات، النقاش العام من سيء لأسوأ، أصوات مرتفعة بلا عمل حقيقي.
رغم أن العلوم انفجرت في كثرتها إلا أن جودتها تقل، يظهر اعتقاد أن كل مشكلات العالم يمكن حلها بالعقل وبلا جهد أو صبر أو تضحية، هكذا تظهر سياسات مفرطة البساطة تفشل دائما. لكن أخطر ما في هذا العصر هو الاختلاف والشقاق والتنافر بين الناس. النقاشات لا تقود إلى اتفاق بل تزيد الخلافات حدة. مشكلة أخرى: المهاجرون. الأجانب يرون الحضارة من الخارج فتسحرهم ويرغبون العمل أو المعيشة فيها، فتتحول الأمة إلى شعوب متعددة اللغات لا تشترك في القيم أو الهوية، بل بسبب أفكار المفكرين والمثقفين تتحطم القيم والمبادئ، لا تؤمن بشيء ولا تأخذ أي شيء على محمل الجد. القيم الأولى اندثرت.
٥- عصر الاهتراء: صار الشعب الآن يتصف أنه عابث، أرعن، جمالي، تلذذي، مادي، متشائم، مسيء للظن في الغير، استهلاكي، نرجسي، عدمي، متطرف، طائش، وصفات سلبية أخرى كثيرة. أقلية تستأثر بالثروات، يزداد الفساد العام، الظلم ينتشر، تشيع الأمراض النفسية والجسدية، الناس همهم الخبز والترفيه. الناس يعبدون المشاهير لا الإله، يأخذون أخلاقهم من الأسافل لا الأعالي، ينبذون القيود الأخلاقية والدينية، يتبرأون من المسؤوليات لكن يتمسكون باستحقاقاتها، وهكذا. تلاشت القيم والمبادئ الأولى، عمّ الفساد والانحطاط، صارت الحضارة جاهزة للانهيار، وتنتظر يومها الذي يمكن أن يحل أي وقت.
هذه مراحل الحضارات البشرية.
كم الوقت الذي يحصل فيه كل هذا؟ من دراسة الحضارات السابقة لاحظنا أن الحضارة تحتاج ١٠ أجيال لتكتمل هذه الدورة، أي قرابة ٢٥٠ سنة، هذا عمر الحضارة البشرية الغالب. (انتهى كلام أوفولس).
كتاب رائع رغم أنه صغير، مفكر عظيم وذو تأثير، عرفت عن أوفولس من قراءتي لمفكرين آخرين يعجبونني وأوصوا به، واشتريت كتب أخرى لأوفولس مثل Plato’s Revenge وسأقيّمها إن شاء الله حال الانتهاء، وأما هذا الكتاب فأنصح بشدة بشرائه وقراءته لمن يحب التاريخ والحضارات.