قتْل. قصف. دمار. بكاء. صراخ. قتلى. جرحى. نيران. رصاص. طعن.
هذه هي الظروف التي عمل فيها “موريس رافل” كسائق شاحنة وقت الحرب العالمية الأولى، التي كانت أبشع وأضخم حرب عرفها البشر قبل الحرب الثانية، وكانت الأولى تسمى “الحرب العظيمة”، وكل يوم عمله محفوف بمخاطر القناصين وقذائف المدفعية والأسلحة الكيميائية وسيل المدافع الرشاشة، ينقل المؤن للخطوط الأمامية. في الشتاء، تجمدت الأرض بقسوة، وفي الربيع صارت طينا ما جعل أقدام الجنود تتورم أكبر من حجمها ثلاث مرات، والذي كثيراً ما سبب الغرغرينا وحتّم بترها. تضخمت الجرذان حتى صارت كالقطط من كثرة ما تغذت على الجثث الممتدة على مد البصر، التي ملأت رائحتها الأرض بلا مهرب. تعرض رافل لمرض الزحار ولسعة الصقيع ومواد كيميائية. الدوي اللانهائي للقنابل أضر سمعه وجعل الطنين ملازما لأذنه حتى في لحظات الصمت النادرة.
في يوم من الأيام، مضى رافل بشاحنته محاطا على الجانبين بصفين من الأشجار الميتة بسبب القصف الذي أحال تلك المدن أنقاضاً، وفي الأفق رأى انعكاس الشمس على قصر مقصوف هجره أهله بسبب الحرب. دخل رافل ونظر، ووسط الدمار رأى بيانو لم يمسسه سوء. جلس رافل، وامتدت أصابعه لتعزف مقطوعة للموسيقار شوبان، ذلك أن رافل نفسه عازف حاذق، وبين أمواج الموسيقى الجميلة ذابت أهوال الحرب. صنع لنفسه لحظة جميلة، غاص فيها، في الحاضر، وقال فيما بعد إنها إحدى أجمل لحظات حياته.
لقد أبى رافل أن يجعل الأفكار السلبية تطغى عليه، ودفعها خارج عقله ولو لحظات، وهذا ما عليك أن تجده لنفسك: شيء جميل تعشقه وتنغمس فيه، شيء يجعلك تنسى الوقت بل المكان، حتى لو تكالبت عليك الوساوس والهموم والغموم استطعت أن تغرس وسطها تلك الواحة لتلتجئ إليها من ضربات الحياة، جنتك الخاصة، حيث لا خوف، ولا حزن… ولو للحظات.