تقييم كتاب: ? Is This Anything

قبل أن أُقيّم هذا الكتاب الصوتي المُعَنوَن ? Is this Anything والذي وضع محتواه الفكاهي الشهير جيري ساينفلد وسَرَده بصوته، يجب أن أذكر شيئاً: مسلسل Seinfeld رائع.

مَن شاهَدَ مسلسلات الفكاهة في الثمانينات والتسعينات الميلادية ثم شاهد ساينفلد رأى شيئا فريدا، ليس فقط براعة الكوميديا بل أيضاً لأن البرنامج خالف بعض العقائد التلفازية، فعكس البرامج الأخرى مثل Friends والكثير غيرها لم يكن لدى ساينفلد قصص حب و رقّة ورومانسية بل ترى فيه قسوة العالم الحقيقي لكن بفكاهة حاذقة! هذا ما جعل البرنامج يصنَّف على أنه “بَعد حداثي” Postmodern، ومصطلح ما بعد الحداثة هذا له عدة تعريفات ولا إجماع على تعريف موحّد له، لكن مما تشترك فيه التعريفات أن تيار ما بعد الحداثة يتسم بعدة صفات منها:

لا توجد حقيقة مطلقة، بل الحقيقة نسبية وشخصية، كل شخص له نسخته الخاصة من الحقيقة، وكلها سليمة، مثلا في مجتمعاتنا نرى أن القتل شر لأقصى درجة إلا في حالات معينة (الدفاع عن النفس والعِرض مثلا)، هذه نراها حقيقة مطلقة، لكن المجتمع بعدالحداثي (مثلما في بعض مناطق الغرب اليوم) يرى أن هذا ليس على إطلاقه، فقد يرى “أ” أن القتل خطأ في كل الحالات بلا استثناء، “ب”: القتل خطأ إلا للدفاع عن النفس، “ج”: …إلا للدفاع عن النفس والممتلكات الثمينة كالسيارة والجواهر، “د”:….وحتى التافهة. وهكذا.

وبينما الحقيقة المطلقة تَستنكر هذا فإن تيار ما بعد الحداثة يرى أن كلها متساوية في صحتها النسبية الشخصية، لأنه لا حقيقة مطلقة يرجع لها الجميع، أما في مجال الفن فإن ما بعد الحداثة ترى أن الرسمة مثلاً ليس لها بالضرورة جمال مطلق بل معناها في ما يقوله راسمها، فلو قارنت رسمة لفنان بارع مثل مايكل أنجلو – والذي يتبع مدرسة “النهضة العليا High renaissance” – لوجدتَ إبداعاً يسحرك بجماله ويبهرك إتقانه، كل الناس تقريباً يتفقون أن نُحوت ورسمات مايكل أنجلو عجيبة في حُسنها ودقتها، لكن لو أنه ترك مذهب النهضة العليا واتجه نحو تيار ما بعد الحداثة فيمكن أن يرسم كرسيا رصاصيا أغبشا مشوشا لا يستحسنه أي ناظر لكن حسب ما بعد الحداثة فإنها رسمة ذات معنى طالما أن راسمها رأى ذلك وإن لم يتضح للآخرين. النسبية في ما بعد الحداثة لا نهاية لها.

رسمة Libyan Sibyl لمايكل أنجلو من عام 1511م

ومن هذا المنطلق فإن ساينفلد أول برنامج تلفازي يتخذ بعدالحداثية منهجا، فمثلاً ترى جيري ساينفلد في السينما مع حبيبته لحضور فيلم شهير مأساوي مليء بالقتل والبشاعة والمعاناة لكنهما منشغلان بلحظة حميمية بدلاً من المتابعة المتأثرة كبقية الناس! وهذا شيء استحال أن يخطر على بال منتجي وكاتبي المسلسلات الكوميدية آنذاك.

ترى قسوة الحياة في نيويورك، الشخصيات الأربع الرئيسية، وهي جيري وجورج وإيلين وكريمر، يتعرضون لتلك المواقف كل يوم، قسوة ونصب ووقاحة وبرود وكل “الفظائع الصغيرة” التي تمارسها المدينة الكبيرة على أفرادها، لكن تصوير تلك المواقف ليس بشكل تراجيدي مبكي بل فكاهي لامبالي، المسلسل يهز كتفيه على تلك المواقف ويقول: «هكذا الحياة، القسوة في كل مكان، لا معنى للمعاناة ولا مفر منها».

أبطال المسلسل ليسوا مثاليين، بل بالعكس، في المسلسل هم يتعاملون بالغش والقسوة والامبالاة، مثل غيرهم، ليس لأنهم أشرار بل لأنهم لاأخلاقيين amoral، وهو مختلف عن الشرير immoral الذي يتعمد الشر، اللاأخلاقي لا يحرص على الشر لكنه إذا وجد أن فعل شيءٍ خاطئ سيحقق غرضه فسيفعله، وهذا يطرح السؤال: هل يحتفظ الشخص برزمة من الأخلاق في عالمٍ بعدحداثي؟ أم يجاري الناس في لاأخلاقيتهم؟ كل الأديان تقريباً لديها ما يسمى القاعدة الذهبية وهي أن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك، لكن في عالم بعدالحداثة والذي يتجلى في مُدُن كتلك فإن المرء سيشعر بوحدة موحشة لو طبق هذه القاعدة، لأن الآخرين لا يكترثون بها، وأغلبهم لا يريد إلا نفع نفسه ولو كان ذلك بالغش والكذب، والفلسفة بعدالحداثية تقول: «لا بأس، افعل مثلهم إن كنتَ ترى أن هذا هو الخُلُق الصحيح»! هل ستصمد أخلاقياتك في هذا العالم؟

المسلسل مؤسس على ما يسمى ستاند أب كوميدي أو فكاهة المسرح standup comedy التي احترفها جيري ساينفلد، وفكاهته الذكية تركز على صغائر الحياة اليومية، وهذا ما يجعلها واسعة الشعبية، فيمكن لأي عربي وباكستاني وتركي وكردي وروسي وماليزي وأوغندي وصيني أن يفهم ويتفاعل مع ملاحظاته الطريفة، بخلاف بعض الفكاهيين الذين يُبرِزون فقط أموراً في الثقافة الأمريكية لا يفهمها أغلب أهل الأرض.

وهذا ما يسير بنا إلى هذا الكتاب الصوتي موضوع التقييم، ? Is This Anything، وهي عبارة خاصة بين الفكاهيين، وتعني “هل هذه النكتة جيدة؟”، فيلقيها على رفيقه وإذا رأى أنها جيدة أدرجها في روتينه الفكاهي، وإن لم يستحسنها حسّنها أو استبعدها، هذا الكتاب عبارة عن نكت وقفشات صغيرة كثيرة، بالضبط نفس فكاهة جيري المسرحية التي تراها في أوائل حلقات مسلسل ساينفلد، بعضها قد سمعتُها من قبل ولكن أكثرها جديدة، وهذا ما يمتع، فترى تعليقات جيري الطريفة على حياتنا المعاصرة والتي تغيرت كثيرا منذ زمن التسعينات، أشياء مثل وسائل التواصل الاجتماعي وبرامج المحادثة وغيرها من أوجه معيشتنا اليوم، كم احتجنا هذا! طالما رغبت أن أسمع تعليقاته المضحكة على الأمور التي نراها اليوم، وها هو يأتي بهذا الإصدار في الوقت المناسب، ونفس صوته المألوف وفكاهته اللامعة وطريقة إلقائه البارعة.

التقييم: كتاب صوتي ممتع ومضحك لعشاق الفكاهة المسرحية، حتى للذي لم يتابع المسلسل، رفيق ممتاز للطريق، يمكن شراؤه من موقع audible.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *