وقف البابا أوربان الثاني العام 1095م أمام حشود ضخمة في كليرمون (في فرنسا اليوم)، وأخذ يخطب ويستثير حميتهم، وما انتهى حتى صرخ الحاضرون حماسة، وحملوا السلاح، وانضم لهم ملوك وجيوش، وزحفوا شرقاً، وصنعوا أشياء مهولة لا نزال نتذكرها ونناقشها اليوم.
ما الذي حدث؟
إنها الحملة الصليبية الأولى، التي انتهت بمجزرة رهيبة في بيت المقدس، وكانت الأولى في سلسلة من حملات متعددة، وبينما تُذكَر هذه الحملات على أنها دينية بحتة إلا أن الجانب الديني على أهميته لم يكن الدافع الوحيد، بل كان المال جزءاً أساسياً منها كما يقول مؤرخون منهم ويل دورانت.
إن الأحداث التاريخية الكبيرة كهذه ليست دائماً كما تبدو، فالمال جزء أساسي من الأحداث، الحروب الصليبية ظاهرها حماسة نصرانية تريد استرداد بيت المقدس، ولكن أيضاً من أهم أهدافها التي لم يذكرها السادة للضعفاء الاستيلاء على طرق التجارة في الشرق، وهي في ذلك شبيهة بحروب الروم ضد فارس، والتي كانت كأنها مجوسية فارسية ضد نصرانية بيزنطية لكن وراء ذلك يلتمع الذهب.
ولاحظ الآثار الممتدة لذلك، فاكتشاف أميركا للأوروبيين جاء نتيجة فشل الحروب الصليبية، ذلك أن الدول الأوروبية حظيت بطريق تجارة سهل وآمن وهو الذي يسمى طريق الحرير ويمر بعدة مدن مهمة آنذاك في الصين وفارس والعراق وبلاد الروم، ولما فتح المسلمون القسطنطينية لم يعد الأوروبيون يأمنون هذا الطريق فبحثوا عن طريق آخر عبر البحر، وهذا ما انطلق كولومبوس من أجله.
المال وراء كل شيء كما يظن بعض المفكرين مثل ماركس، إلا أن هناك عوامل أخرى أهم من المال تحمس الناس، وكارل ماركس لم يقدر هذا حق قدره عندما تكلم عن دور المال الأساسي في أحداث التاريخ، فهذا لا يفسر الحماسة الدينية لدى جيوش المسلمين كما يقول دورانت، أو الحماسة القومية لدى ألمان هتلر وكاميكازي اليابان، فحتى لو كان هدف القادة مادياً فالعامة ينطلقون لأهداف أخرى.
أخيراً، بعد كل شيء، يظل المال مهماً، لهذا البنوك هي التي تتربع على هرم الاقتصاد، فهم الذين يتحكمون برؤوس المال ويديرونها، أسرة ميديتشي في فلورنسيا الإيطالية، وأسرة فوجر في أوغسبيرغ الألمانية، وأسرة روثتشايلد في باريس ولندن، وأسرة مورغان في نيويورك. أسر الصرافة هذه جلست مع الحكومات، وموّلوا الحروب والباباوات، وأشعلوا الثورات، وسيكون للمال الصوت الأعلى دائماً.