الصمت

الصمت أبلغ من الكلام.

ليس دائمًا، وإلا لتفاخَر الناس بـ”الصماتة” كما تفاخروا بالبلاغة، ولكن لحظات الصمت المختارة بعناية أقوى من معظم كلام البشر.

الصمت.. حياة جديدة. في الحديث: «لا تُنكَح البكر حتى تُستأذَن». ولما سألوه عن كيفية الإذن قال: «أن تسكت».

الصمت.. أحقاب عذاب. بعد معاناة طويلة ينادي المجرمون: «يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ». فيصمت ألف سنة ثم يرد: «إنكم ماكثون».

شعر الرثاء بديع في تراثنا، أما الغربيون فيستخدمون الصمت تأبينًا للأموات، فإذا ذُكِر أحد الراحلين قالوا: لحظة صمت في ذكراهم.

تدخّلت حكومات دول عظمى في الصمت! دستور الولايات المتحدة يفصل بين الدين والدولة، ومن ذلك منعُ تنظيم المدارس رسميًا لصلوات وأدعية للطلاب، وقد اندرج تحت ذلك ما يسمى لحظة صمت، فهي مجرد لحظات من الصمت ولكنها ارتبطت بمعنى ديني، فتدخل الرئيس رونالد ريغان واقترح تعديلًا للدستور يسمح بلحظة صمت في أول اليوم الدراسي، يدعو فيها الطالب أو يتأمل.

الأفلام العظيمة تستخدم الصمت لتصنع لحظات لا تُنسى. فلم Raging Bull يحكي قصة حقيقية للملاكم جيك لاموتا، وقد كان عصبيًا ملتهب العواطف يثور بركان عنفه في أي لحظة خاصة فيما يخص زوجته الفاتنة التي وقعت عليها أعين الجميع، ولما اشتبه في أمرها ذات مرة وأحد أصدقائه انفجر عليها ضربًا عنيفًا وذهب لبيت صديقه وكال له المكيال نفسه، ثم ندم بشدة لأنه لم يتوثّق، بعدها بقليل في مباراة الملاكمة المتلفزة للأمة كلها وقف وأسند ظهره إلى حبال الحلبة أمام أحد أعظم ملاكمي التاريخ راي روبنسون، فيلكمه روبنسون لكمات متتالية عنيفة لو أصابت ثورًا لأسقطته، ولاموتا واقف يتحمل؛ لأنه يريد التكفير عما فعله بزوجته وصديقه، تناثر دمه، وهو واقف لا يقاوم، عيناه تستجديان العذاب: “اضربني بعنف يا راي، أنا أستحق، دع الألم يطهرني من ذنبي”، وقبل طوفان اللكمات هذا.. اقتربت الكاميرا من وجهه المرهق اللاهث.. في ثوانٍ صامتة لا تُنسى.

أحيانًا كثيرة، إذا أردت أن تقول بليغًا أو تجيب سؤالاً أو تُفحِم ثرثارًا أو تعاتب حبيبًا.. فاصمت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *