أمشي في بيتٍ فارغ إلا مني وجبال الضجر التي أتقلب في نعيمها!
كيف يحب أحدٌ الملل؟
إنه شعور تمقته النفس البشرية، حكاية سيزيف Sisyphus مشهورة في الميثولوجيا اليونانية، يقترف ذنبا فيعاقبه هاديس ليس بالألم بل بالملل، يجعله يدفع صخرة ضخمة أعلى الجبل، لكن كلما اقترب من القمة تدحرجت جبراً فيضطر أن ينزل ويدفعها للأعلى من جديد فإذا قارب القمة تدحرجت وهكذا إلى الأبد.
الكثير من الناس لو كان مجبرا أن يختار بين دقائق ألم وساعات ملل لاختار الألم. للملل قوة مُرّة لا تكاد تطيقها الأنفس، وكم تُرِكَت النوادي الرياضية والحميات الغذائية والدورات التدريبية ليس بسبب ظروف شديدة بل فقط بسبب السأم.
بل حتى البشر نتركهم بسبب الملل، تطبيقات المواعدة والتعارف ظهرت فيها مصطلحات جديدة مثل ghosting تعني أن تختفي الفتاة أو الشاب فجأة بعد فترة من التعارف لأنها ملّت أو لأنه ملّ منها.
أما أنا فكسرت قوانين النفس البشرية ذاك اليوم، لقد استمتعت بالملل، بعد أيام وأشهر وسنين ممتلئة بالضغط النفسي والأشغال العاجلة الضرورية التي تبدو كأنها تنهمر من صنبور لانهائي، بعد تلك الظروف التي تنازعتني كضباع جائعة، استيقظت صباح ذلك اليوم وبدأت القراءة والقهوة في مقهاي المفضل، ثم عدت إلى المنزل، ولأول مرة منذ زمن بعيد .. لا شيء يجب أن أفعله الآن!
الالتزامات أكملتها ولم يطرأ منها جديد، المهام العاجلة ضغطتُ نفسي بشدة وعملت في عطلة نهاية الأسبوع وقضيت أحيانا 14 ساعة شبه متواصلة وأنهيتها، أتلفّت حولي، لا شيء يجب أن أفعله الآن، شعور غريب، أنهض وأمشي، صوت السكون يُدوّي، أتجمّد له مُنصِتاً، ثم .. أبتهج! والبهجة شعور نادر لدى معظم الكاتبين والذين عادة لا تفارقهم السوداوية والكآبة لسببٍ لا ندركه.
جلست على الأرض، أتأمل وضعي غير المألوف، صمتٌ، فراغ، ملل لذيذ! هذا الوحش الذي خشيته طوال عمري وفعلت كل شيء لأبدده وأتحاشاه باغتني من الخلف فوضع ذراعه حول كتفي وابتسم، قال: اليوم لست لك بعدو، عش اللحظة، قد لا تتكرر إلا بعد سنين.
شكراً يا صاح، طبّقت نصيحتك، لم أبدد اليوم بصنع انشغالات أو بالجوال أو بالانشغال بهموم المستقبل وغموم الماضي كالمعتاد، عشتُ حتى النخاع يوم الملل، أحد أجمل أيام حياتي.