تقييم فلم Batman Begins (بداية ثلاثية نولان العبقرية)

فاتحة

هذا أول تقييم لثلاث أفلام باتمان أخرجها كريستفر نولان، وهي Batman Begins، ثم The Dark Knight، وأخيرا The Dark Knight Rises، كلها ستجد تقييماتها هنا في المستقبل القريب، وسنبدأ بالفلم الأول الذي قدح زناد الثلاثية العبقرية، وهو Batman Begins.

من الشرير الأعتى؟

لنبدأ بالأشرار! الجوكر أشهر شرير في سلسلة باتمان، وربما في كل قصص الأبطال. أفضل تصوير له في السينما أتى بتمثيل “هيث ليجر” في فلم The Dark Knight، غير أني أرى أن “سكيركرو Scarecrow” هو أيضاً أحد أفضل الأشرار وأخوَفَهم ويستحق وزناً أثقل، لأن أسلوبه في الشر مريع، الأشرار في هذه السلاسل تتجسد شرورهم في القتل والنسف، في القنابل والمسدسات والقوة الجسدية وجيوش العصابات، لكن سكيركرو يلعب بعقلك.

سكيركرو يرش عقار الرعب

إنه عالم نفسي ذكي، نشأ معانيا من تعذيب نفسي وجسدي مستمر صنع منه إنسانا حاقدا متوحشا، يستخدم علمه وعبقريته في تحطيم الآخرين وقتلهم، أشهر أسلحته عقار هلوسة ينفثه في وجهك فيخرج أشد الذكريات ألما وأبشع المخاوف، يستخدم عقلك ضدك، لا يخوفك بمسدس، بل بما يُبطنه عقك من مخاوف وفوبيا، المخ بارع في صنع المخاوف، ويتفنن في أن يخلقها من المجهول، كلنا نعرفها، في الصِّغَر إذا كنتَ وحيدا في الظلام أخافك هذا ولو كنت في بيتك، لا ترى خطرا، ليس حولك أفعى أو نمر أو وحش أو مجرم، لكن العقل يخاف المجهول ويصنع منه أبشع الوحوش، ونعرف المثل “وقوع البلاء ولا انتظاره”، نُفضّل شرا ملموسا نراه وندركه على شر مجهول لا نحيط به، وهذا تَخصُّص سكيركرو، واسمه الحقيقي جوناثان كرين، لا يحتاج أسلحة قاتلة ليرهبك، يستخدم أقْتَلَ سلاحٍ في التاريخ: المخ البشري.

مخك…ضدك. رشة واحدة في وجه باتمان أرجعت له أشد الذكريات ألماً وخوفاً، في لحظات يسقط البطل الشاب القوي الذي يصرع عدة أقوياء، ويضطرب متقلباً برعب على ظهره في الليل البارد المطير متصلا بمساعده يستغيث به: “ألفرِد، ساعدني! ساعدني!!”. مشهد لا يُنسَى.

الخوف

إنه أحد أقوى وآلَم المشاهد في سلسلة باتمان كلها، كل من عانى القلق anxiety ونوبات الذعر خاصة سيتأثر بهذا المشهد ويدرك قوته، لأنه حقيقي ويحصل كل ساعة للمصابين حول العالم باضطرابات القلق، العقل يضطرب ويهاجم نفسه، نوبات الذعر تسبب أعراضا مختلفة، زيادة ضربات القلب، تعرق اليدين، ضعف الركبتين، دوخة، تنميل الأصابع، ضغطة صدر، إحساس أن المرء سيموت بنوبة قلبية أو سيفقد عقله، رغم عدم وجود خطر حقيقي، لكن هذا ما تفعله نوبة الذعر، لا يمكن الإقناع ولا التفاهم معها، يتوهم المخ خطرا بالغا غير منطقي غير عقلاني ثم يصدقه بقوة فائقة ويجبر الجسد أن يتفاعل بأقصى رعب ممكن.

الخوف جزء أساسي من فلم Batman Begins، هو يبدأ بسقوط “بروس” وهو طفل في حفرة قريبة من بيته، يظل في ظلامها المخيف وخفافيشها فترة إلى أن ينزل أبوه لينقذه، كان وحده، لا مفر، إنه مُجبر أن يعيش الخوف، قال له أبوه: “كل الكائنات تشعر بالخوف”. يكبر بروس ويظل معه الخوف من الوطاويط، لكنه يواجه هذا الخوف بأن يسلطه على أعدائه، فجعل شعاره ولباسه الوطواط الذي يخافه بروس لكي يرهب المجرمين عندما ينقض عليهم فيخافوه أيضا.

عقار الهلوسة الذي يرشه سكيركرو أساسه الرعب، يرعب الضحية حتى إن بعضهم يفقد عقله من شدة الخوف، من أشياء ليست حقيقية بل داخل عقله فقط، لكن العقل يحوّلها إلى شيء أكثر واقعية من الواقع. لهذا ستعرف شعور الخوف من المستقبل حتى لو لم يحصل لك شيء، الكثير من الناس يخاف الديون وفقدان الوظيفة والمرض وفقدان الأحباب والكوارث و و و و، ينغّص حاضره بالقلق منها والتوجس من أي من إرهاصاتها ولو كانت وَهْما. يقول الإمبراطور الفيلسوف ماركوس أوريليوس: “بدلاً من أن تسأل: كيف أتفادى أن أفقد ولدي؟ اسأل: كيف أتخلص من خوفي الدائم أني سأفقد ولدي؟”.

الخوف هو سبب بكاء الطفل بروس وخروجه من الأوبرا لما كان مع والديه، خاف من شيءٍ ما وقرر أهله أن يتركا الأوبرا ويخرجان ليسكّنا خوف ابنهما. وهنا يأتي الخوف مرة أخرى، فلما خرجا واجههما المجرم الذي أراد سرقتهما، ولما مد المجرم يده لينزع قلادة أم بروس الثمينة حاول أبو بروس أن يمنع ذلك مما أخاف المجرم فأطلق النار عليهما أمام بروس وهرب. صدمة بروس التي حوّلته فيما بعد إلى باتمان كان سببها الخوف، الخوف صنع البطل باتمان!

بل إن الخوف هو السلاح الأكبر لرأس الغول، فخطته النهائية لتدمير غوثام هي أن يأخذ عقار الرعب الذي يستخدمه سكيركرو ولكن يضرب به المدينة على نطاق واسع لكي تقتل نفسها ذعراً.

منظور الطفل بروس وهو في الحفرة ويرى والده ينزل لينقذه

عقلانية الشر في ثلاثية نولن

الأفلام الثلاثة التي أخرجها كريستوفر نولان تحوي أفضل تصوير للشر رأيناه حتى الآن في أفلام باتمان، لأن الشر “عقلاني” هذه المرة، عكس التصوير غير الواقعي له في معظم الأفلام السابقة والتي وصلت لقمة السخافة في فلم Batman & Robin و Batman Forever، ومن هذه التصويرات المضحكة للأشرار:

  • هارفي دينت (ذو الوجهين) في فلم باتمان للأبد شرير خالص بعد أن كان صالحا طيبا، وكل ما يريده هو التفجير والتدمير والإفساد بلا سبب واضح، ويضحك ضحكات جنونية ويستخدم طرقاً ملتوية لمحاولة قتل باتمان بدلا من مباشرة، ومنزله يحوي جانب خير وجانب شر، جانب الخير فاتح الألوان وجميل الأثاث وفيه عشيقته ذات الوجه البريء التي تلبس الأبيض البريء، وجانب الشر أسود أحمر إبليسي المظهر مليء بالغرائب المنفّرة وفيه عشيقته الأخرى وملابسها الشيطانية، ممتع عندما تراه أول مرة لكن لا تأخذه جديا، إلى غير ذلك من التصويرات الطفولية للشر.
  • هارفي في مروحية ويقفز باتمان ويتعلق بها، قائد المروحية يخبر رئيسه هارفي عن هذا فيصرخ هارفي بغضب ويطلق النار على معاونه رغم أنه هو الذي يطير بالمروحية.
  • في باتمان للأبد نرى كيف تَشوَّهَ نصف وجه هارفي، كان في المحكمة وكان يستجوب زعيم إجرام، فأخذ الزعيم علبة حمض حارق ورمى الحمض في وجه هارفي، ونرى باتمان يقفز ليحاول مساعدته. في هذا المشهد غباء فائق، غير أن المجرم لم يفتشوه رغم أنه ذاهب للمحكمة، وهو أننا نرى باتمان في وضح النهار جالس يتفرج على المحاكمة وكأنه شخص عادي! ويحاول الفلم إظهار أن باتمان هو الصالح بأن يحاول إنقاذ هارفي.
  • العالِم إدوارد نيغما يعمل في شركة بروس وين، ويحصل خلاف في الرأي بينه وبين بروس، فيتحول فجأة إلى شرير وهو The Riddler، ويحاول القضاء على باتمان رغم أنه لا يعرف أنه هو بروس وين!
هارفي ذو الوجهين في فيلم Batman Forever

لكن في ثلاثية نولان فإن الشر هنا مقنع أو على الأقل يدعو للتفكير أو الحيرة، إنه ليس مجرد أشرار يتصرفون بالشر لمجرد الشر، إنه نتيجة معضلات أخلاقية أو آلام طفولة أو اضطرابات عقلية، إنه حقيقي، مثلا منظمة “عصبة الظلال League of Shadows” التي يتزعمها “رأس الغول” لا تريد التدمير لمجرد التدمير، بل لديهم أهداف نبيلة كما يرون، فرغم أنهم يقتلون الأفراد ويدمرون المدن إلا أن هذا لا بد منه لأن هدفهم النهائي إنقاذ البشرية جمعاء، فلا بأس من التضحية بالبعض من أجل الكل (وسنتفصل في استكشاف مفهوم الشر وتصويره في تقييم فلم The Dark Knight العظيم).

مبدأ عصبة الظلال يقوم على أن غوثام أمة ضالة تستحق الفناء، وهم هنا كأنهم يضعون أنفسهم مكان الرب، فقد كان لدى المدينة فرصة للتوبة لكن أصروا على ضلالهم (أي الجريمة والفساد المنتشران) فكان لزاما على العصبة أن تُنزل بهم العذاب والدمار، ويقول رأس الغول أن هذا ما فعلته منظمتهم على مر التاريخ مع أعظم الأمم مثل الإمبراطورية الرومانية، فإذا كثر فيهم الفساد تظهر العصبة وتُحلّ عليهم البأس، وهنا لا يستطيع المشاهد فورا أن يتخذ موقفا ضد العصبة، لأن أهدافهم نبيلة وطويلة المدى فيما يبدو وهي محاربة الفساد وحفظ البشرية، لكن أسلوبهم مفرط في العنف، وهذا ما يجعلهم أشرار، انحرافهم عن الحق وتطرفّهم الشديد رغم أنهم يتمسكون ببذرة من بذوره. 

أصول البطل

الفيلم أيضا يجيب على سؤال: كيف استطاع باتمان أن يتعلم كل هذه القدرات؟

مَن تابَعَ القصص المصورة سيعرف، لكن هنا هي مختلفة عن القصص المصورة وأفضل بكثير، ونرى قصة أصوله مع عصبة الظلال التي درّبته في المعتقلات والجبال الثلجية في بوتان شرق جبال الهمالايا، تَدرّب على أساليب القتال والتخفي كالنينجا وتقوية الجسد واللياقة، فقد كان منهم! بروس وين كان من جنود عصبة الظلال! وكان من أفضلهم، ورَمَقه أحد القادة الذين يعملون تحت إمرة رأس الغول وهو “دوكارد” بنظرة متفرّسة ورأى فيه قائدا قويا، فأعطاه اهتماما أكثر، ولكن حصل اصطدام بين قِيَم بروس و قيم عصبة الظلال، فلما طلبوا منه أن يقتل قاتلا أمسكت به المنظمة، رفض بروس رفضا قاطعا، وقال لهم أن الرجل يجب أن يُحاكَم بعدالة أولاً قبل إيقاع أي عقوبة عليه، كانت أول مرة تتناطح فيها المبادئ، ومنها بَرَز مبدأ باتمان الشهير، أقوى وأهم وأشهر مبادئه: لا قتل. ترى هذا في أسلوبه في التعامل مع الجريمة، فهو لا يقتل ويرفض القتل قطعيا، وحتى لو هدده مجرم بسلاح قاتل فهو يتعامل مع المواقف هذه بإزالة الخطر دون قتل المجرم، إما بنزع سلاحه أو تقييده أو ضربه، ويضع نفسه في مواقف شبه مُهلكة بسبب ذلك، لكن باتمان صاحب قيم، لذلك لا يمانع من المخاطرة بحياته من أجل مبادئه.

بروس وين يتدرب في الثلوج الجبلية على القتال على يد القائد دوكارد

لكن ما الذي ألقى ببروس وين من مدينته غوثام إلى سجون في دولة صغيرة في جنوب آسيا؟

زيارة إلى الزعيم الإجرامي كارماين فالكوني. ذهب له بروس ليواجهه، لأن هناك رابط بينه وبين قاتل والديه، وهناك أدرك فالكوني أن بروس أتى غاضبا لكنه لم يأخذه على محمل الجد، يعرف أنه ما يزال يحمل الرغبة في الانتقام بسبب مقتل والديه وهو طفل، فيعطيه كلمة قصيرة لكن بالغة الأهمية في تشكيل شخصية ومستقبل بروس، فمما قاله له فالكوني أن بروس أشبه بطفل مدلل، نشأ ثريا، أعطاه أهله كل شيء، لا يعرف أي شيء عن الحياة الحقيقية فضلا عن حياة الإجرام التي أتى يواجهها بسذاجة الآن، ظانا أن مسدسه سيصنع شيئا مع العصابات القاسية، وهدد فالكوني صديقة طفولة بروس وهي ريتشل دوس، ومساعده الأمين ألفرِد (وهذا ما جعل بروس لاحقا لما صنع شخصية باتمان يلبس قناعا ويغير صوته لكي لا يعرفوه فينتقموا من أحبابه)، وقال فالكوني لبروس: “إن أهل عالمك لديهم الكثير ليخسروه”، حياة الثراء والرخاء لا تصنع الأقوياء، وأنهى فالكوني الكلمة بأن يجعل أتباعه يضربون بروس ويلقونه خارجا، وبعدها أدرك بروس أنه غير مؤهل أن ينتقم لأهله، فسافر في أرجاء العالم يحتك بعالم الجريمة ويدرسه، وهكذا وضعته الظروف في سجن في بوتان حيث رآه دوكارد وميّز قدراته الكامنة ودرّبه، وكل هذه الخبرات والتدريب هي التي أعطت بروس القدرة أن يتحول إلى باتمان ليس فقط لهدف شخصي صغير مثل أن ينتقم من قاتل والديه بل لهدف سامٍ كبير: ليكافح الجريمة في مدينته غوثام.

خاتمة

فلم بديع، كريستفر نولان يعيد إحياء سلسلة باتمان بعد أن قتلها جول شوماخر بأفلام باتمان التافهة في التسعينات، إخراج عبقري، تمثيل مبدع (كريستيان بيل يظل أفضل من مثّل شخصية باتمان)، كتابة عميقة، تصوير سينمائي ساحر. سنرى في مقالة قادمة تقييم الجزء الثاني أي فلم The Dark Knight وهو ذروة أفلام الأبطال وأعظمها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *