تشبعنا بكل شيء في هذا الزمن الغريب!
كل شيء صار حولك أو أمامك، إما فعلا أو عن بعد، والفضل للانترنت.
خذ الطعام مثالا.
في صغري كنت أعشق مطعما اسمه بروستد السواني في شرق الرياض، إذا اشترى لي والدي منه وجبة حلّقت في غيوم السعادة، متعة في كل وجبة، اليوم لا أثر له، لكن ظهر عدد هائل من مطاعم الدجاج المقلي، وكلها متشابهة، لا يوجد تميّز حقيقي، تضيع النشوة مع التشبع وكثرة الخيارات.
هذا ما يحصل مع الوفرة.
من أهم المبادئ التجارية اليوم: كيف تميز نفسك عن المنافسين؟ هناك عدد لانهائي من المقاهي الممتازة، ما الذي سيجعلك مختلفا كي يعاود الناس ارتيادك؟ انفجرت المنافسة وضاع التميز. لا يكفي الآن أن تصنع قهوة ممتازة وديكور وجميل ومأكولات طازجة وموقع جيد وإيجار غير باهظ و و و ، يجب أن يكون هناك مع هذا كله عنصر يميزك.
ألعاب الفيديو من أفضل متع الحياة، جزء أساسي من كل طفولة جميلة، في صغري كانت أجهزة ألعاب أتاري وكوليكو و صخر وأميغا مثل هِبات نزلت من الفردوس، كل لعبة كالكنز، “سونيك” على سيغا، “ماريو” على ننتندو، عالم ساحر، متعة لا حد لها، الألعاب كانت تُشترى واحدة واحدة، ذهبتُ في صغري مع عمي لشراء لعبة Resident Evil الأولى على بليستيشن، وهي لعبة رعب لم يُصنَع مثلها من قبل في الإتقان والواقعية! رحلة طويلة بالسيارة لشراء لعبة محسوسة تمسك علبتها بيدك وتتلذذ برؤية رسمة الغلاف والدليل الداخلي، يا له من شعور!
اليوم؟
عدد لانهائي من الألعاب يمكن تنزيلها في دقائق، ضاعت البهجة في الطوفان الرقمي، انفجرت الوفرة، زال التميز.
أغنية دي دي للشاب خالد طربت لها مسامعي وأنا طفل طربا عظيما، لم أفهم أي كلمة منها، لكن الموسيقى شيء يتجاوز حواجز اللغة، اليوم عبر سبوتيفاي و يوتوب و أبل ميوزيك هناك ملايين الأغاني، تتثاءب وأنت تقلّبها.
شهقت بانبهار لما رأيت فيلم Terminator 2، تكلمنا عنه بافتتان، وكل مرة تشاهده تشعر كأنها أول مرة! نفس الشيء مع من شاهدوا Star Wars و Indiana Jones و ET و Jaws، هل ترى نفس المتعة في الأفلام اليوم بعد أن غرقنا في كثرتها؟ ربما، إذا كنتَ تحرص أن لا تبتلع الكثير وأن تُنقِّط المشاهدة نقطة نقطة!
التلفاز أيضاً. أيام الطفولة كنا نجلس نشاهد برامج في مواعيد محددة، لا تملك رفاهية الاختيار العشوائي، تنتظر بفارغ الصبر تلك الحلقة الجديدة من مسلسل أو مباراة.
الآن؟
كل شيء في متناول اليد على منصات البث، شاهد ما تريد وقتما تريد. ومع أن هذا يبدو كأنه رفاهية مطلقة، إلا أن الشعور بتلك اللحظات الفريدة التي تجتمع حولها العائلة أو الأصدقاء تلاشى مع هذه الوفرة.
وهذا يقود إلى سؤال العنوان: لماذا اختفى العشق؟ لمَ لا نسمع به كما في السابق؟
في الصحراء العربية القاسية لم يكن هناك إلا الحرمان، الكثبان الجافة تُجدِبك معها، وتتعطش نفسك إلى أي شيء جميل رقيق، وآنذاك لم يوجد هذا في الصحراء، إلا شيء واحد، فمن بين الرمال المجدبة والحشائش الجافة والجيف المتناثرة والسَّموم الملتهبة ظهر طيف إنسان كأنه أتى من رياض الفراديس: المرأة.
قطرة رقة في بحر القفر.
وبما أن الله جبل الرجل على حبها، إذا أضفت هذا إلى ذاك، صارت المرأة حتى دون العادية آنذاك ملاكا تتقطع له أكباد الرجال، لو لمح الغلام البالغ منها ربع وجهها طار صوابه، وذَكَرَه لرفاقه بانبهار، وتناقلوا وبالغوا في الوصف حتى تحولت تلك الفتاة إلى أسطورة.
اليوم؟
في الجيب مليون صورة، حتى صار أحدهم يمل من كثرة الجمال، لم يعد هناك داع قوي لكتابة قصائد الشوق والتعبير عن اللوعة، ما عادت حواء سرابا ينشده الناشدون ويقطعون لها المفازات بل أضحت محيطاً لجاً لا يُدرى أوله من آخره. تلاشى العشق في زمن التشبّع.
في زمن التشبّع أصبح كل شيء متاحاً وسريعاً لدرجة أفقدت الحياة الكثير من بريقها. كان للأشياء النادرة قدرتها السحرية على أن تُلهب مشاعرنا، لكن اليوم ننتقل من خيار إلى آخر بلا توقف، حتى فقدنا الشعور بالدهشة والامتنان وحب الاستكشاف.