سجنك.. وسجون أبي العلاء

انطلق الأعمى بسيارة الفيراري بسرعة فائقة، والراكب بجانبه يصرخ مذعورا!

إنه فرانك سليد، كولونيل متقاعد في الجيش الأميركي، يعيش مع ابنة أخيه، بعد حياة مبصرة انفجرت قنبلة وسلبته بصره، وفي هذا السجن المظلم مكث حبيسا سنين طويلة، حتى أتته تلك الفرصة أن يقود سيارة أحلامه وأحلام الكثيرين، لا يرى الطريق ويعتمد على إرشادات مرافقه ويقود ببطء، لكنه قرر التحرر من هذه القيادة البطيئة وزمجر بالمحرك وقذف السيارة كالصاروخ، وبينما معاونه الشاب يصرخ خائفا كان فرانك يصرخ منتشياً، لقد تحرر من سجنه لحظات، وقد كان يفكر قبلها في الانتحار! مشهد بديع من فيلم Scent of a Woman (هنا تقييمي للفلم).

العمى نوع من السجون، شهّر الشعور أبوالعلاء المعري المُلقَّب برهين اَلْمَحْبَسَيْنِ، أي مُلزَم أو مربوط في سجنين، مَحبَس العمى ومحبس البيت، فقدْ فقدَ بصره صغيرا، ولما كبر ألزم نفسه المكوث في بيته لأنه ما عاد يطيق التعامل مع الناس، ومن أسباب ذلك عزة نفسه التي تنفّره من شفقتهم عليه، وأضاف طه حسين سجنا ثالثا وهو سجن الجسد، مبيّنا أن شعر أبي العلاء يذكر ذلك كثيرا، مشتكيا من حبس روحه في جسده ومعاناة هذه النسمة الأثيرية في سجن اللحم البائس، بل لمّح طه إلى سجن رابع وهو سجن الفلسفة، فقد عانى أبو العلاء من ذكائه اللامع، عقل ذكي لا يستطيع أغلب الناس فهمه أو حتى التخاطب معه على نفس المستوى، وقد تكلم العلماء في العصر الحاضر عما يسمى لعنة الذكاء، الناس الأذكى تجدهم في قلق واكتئاب ووساوس واضطراب، لم يُخرج أبا العلاء من سجنه إلا الشعر، يطرح فيه ألمه وتأملاته بحرارة، حتى وصلتنا هذه الخواطر الرقيقة بعد قرون من وفاته.

ليس العمى السجن الوحيد كما ترى من قصة أبي العلاء، الكثير منا في سجنه الخاص، ربما وظيفة سيئة يصعب تركها، عادة سلبية كالأكل أو التدخين، دين لَزِمك، ذكاء يعذّبك، ماضٍ يوجعك، غربة مؤلمة، وحدة موحشة، زيجة جحيمية، اكتئاب أو قلق، وربما سجن لا يعرفه إلا أنت.

هذا لا بد منه للكثير منا، لذلك السؤال ليس: لماذا أنا مسجون؟ فهذا لا مناص منه للكثير منا، وإنما السؤال: كيف أخرج من سجني؟ حتى لو لم تخرج نهائيا فلا بد من مخرج كل يوم أو حتى كل سنة، تنفض غبار سجنك وتنسى قضبانه وجدرانه، ربما رحلة في فيراري مثل فرانك، ربما كتابة، أو رسم، أو قهوة، أو يوغا، أو رياضة، أو ضحكة طفل. أي شيء ينفض عنك غبار السجن، ولو للحظات، لتشعر أنك حر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *