في مسلسل The Sopranos .. أتت مقولة أخّاذة.
يجلس الشاب كريس في السيارة مع عمه زعيم المافيا توني سوبرانو، ويفصح له كريس عن ضيق شديد لم يعد قادرا أن يكظمه، فيقول: “لا أدري ما بي، أظن أن عاديّة الحياة شديدة المشقة علي ولا أتحملها”.
كريس شبّ على أفلام المافيا وظن أن حياة المافيوسو مليئة بالأكشن والمتعة والمخاطرة والظفر، لكنه لما انضم فعلا إلى المافيا لم ير تلك الأمور إلا نادرا، الغالبية من وقته…عادية!
هذه العاديّة – التي وصفها كريس بكلمة regularness of life – خنقته حتى لم يعد يصبر، ولجأ إلى المخدرات والخمر كمفر من هذه الحياة المخيبة لتوقعاته، تمر الدقائق العادية، يذهب ليشتري الخبز، ينام، يذهب لمكان العمل، يقود سيارته، يروّح عن نفسه هنا وهناك، يحضر مناسبة اجتماعية مملة، ينظر إلى حياته، لا فرق كبير بينه وبين الشخص العادي، ليست الحياة التي يريدها. لكن هكذا الحياة فعلا، ليست أحداثا شيقة كل يوم، كلها تقريبا عادية.
هذا التحدي ليس مقتصرا على كريس بل علينا كلنا، معاركنا مع أفكارنا، أنفسنا، الشيطان، ليست معارك ضخمة صاخبة مُهوّلة كمعركة الزُّلاقة وملاذكُرد، إنها صراعات يومية أو ساعيّة أحيانا، طويلة، فاترة، خالية من الحركة والأكشن والإثارة، تحتاج نَفَساً طويلا وليس صبراً حادا على موقف قصير، وهذا الطول والعاديّة…أصعب!
خذ مجموعة من الناس وقل لهم: “لدي لكم هذا التحدي، أريد منكم أن تصوموا هذا اليوم من الفجر إلى المغرب وتكرروا ذلك عدة أسابيع”. أغلبهم سيجتاز التحدي. قل لهم: “ستحرث هذه الأرض لكي نزرعها للفقراء، ستحرث 10 ساعات متواصلة كل يوم لمدة 14 يوم”. أكثرهم أو كلهم سيقدر. قل له: “هذا الطفل يتيم، سيأتي 5 مراهقون كبار بعد قليل ليتنمروا عليه، أريدك أن تحميه ولو تعرضت للضرب”. كل المجموعة ستوافق فورا وسيرضون بالألم والضرب ليحموا الطفل.
لكن قل: “أريدكم أن تقاوموا شهوات المال والجسد والجاه، منذ بلوغكم، يوم بيوم، ساعة بساعة، دقيقة بدقيقة، إلى آخر حياتكم”، ماذا سيقولون؟ هنا التحدي الحقيقي!
إنه أشق على النفس من معركة قوية وقصيرة، إنه يحتاج صبر سنين، الثبات، الاتّساق، التحمل ليس للكفاح فحسب بل للملل وطول الأيام وخلوّها من نقاط تحدي معيّنة تَخرج بسيفك وتِرْسك لتبارزها.
تلك السنين الباردة – عاديّة الحياة! – تفتن وتُضِل أكثر من أي شيء، هل ستنتصر في المعارك الصامتة؟