بدأ نتفلكس موقعًا صغيرًا لتأجير أفلام دي في دي عبر البريد، وتضخّم حتى صار أكبر من هوليوود، ويتنافس النجوم على التمثيل في مسلسلاته وأفلامه، لكن نتفلكس له معنى آخر غير انتصار شركة صغيرة على عمالقة: إنه يحكي قصة الوحدة الخانقة التي يعاني منها إنسان الغرب.
استغربتُ لما عرفت أن صالات السينما الغربية تأثرت في 2017م؛ إذ وصل الحضور في دور السينما الأميركية والكندية إلى أقل مستوى في 25 سنة، وأشارت الأصابع إلى نتفلكس، وهذا إن صح دليل على أن عصرنا يسمم الروح بالعزلة، فبدلًا من شعور جماعي بالمتعة المشتركة انعزل الناس لترفيه أنفسهم في غرف مغلقة على شاشات صغيرة، وما أكثر علامات الوحدة التقنية، فسماعات الرأس مشهد منتشر في الغرب والشرق، معناها: “دعوني في حالي، لا أريد أن أكلم أحدًا”. حتى في مكان عام عزل نفسه!
عندما أقرأ حوارات الغربيين ألاحظ فرقًا بين الكلام والتفكير الآن وبدايات الإنترنت، ففي السابق كان الكلام طبيعيًا يشبه المنطوق، أما الآن فظهرت لغة خاصة بالإنترنت أشهرها الميم meme، وهي فكرة أو صورة أو كلام ينتشر عن طريق التقليد من شخص لشخص، فبينما كانت مجرد نكتة متداولة صارت الميم الآن ثقافة في حد ذاتها (وهي إما صور أو عبارات قصيرة)، لها منتديات ضخمة وعشاق لا يتكلمون إلا بهذه اللغة الطفولية البدائية، والجيل الجديد الذي ربّته الإنترنت ترى في كلامه العيّ وفي عقله الضعف، فلا يستطيع التعبير ببلاغة؛ لأنه لا يقرأ الكتب، ولا يتواصل مع بشر حقيقيين كل يوم، فتُبهَت من منظر ابن 25 وردوده قصيرة وكلماته بسيطة ويحتقر من لا يعرف آخر تقليعة إنترنتية، لا يستطيع أن يستشف التهكم، والتهكم يحتاج مرحلة عقلية عالية حتى إن أنظمة الذكاء الاصطناعي تعاني في هذه النقطة البشرية الفريدة.
ابن الإنترنت يتكلم مع مخالفيه بفظاظة فظيعة، فلا يرى بشرًا وإنما يرى أشياء تكلمه، لذلك لا أستغرب إذا رأيت اثنين يتناقشان عن أغنية أو لعبة ويثور خلاف فيتمنى كل منهما هلاك الآخر وأهله ومدينته! لأن الوحدة المستمرة والتواصل غير الطبيعي (الإنترنت) شوه التعامل الذي استمر عليه البشر عشرات آلاف السنين، أي الاجتماعية الحقيقية وكلامًا مباشرًا والنظر للآخر على أنه إنسان لا مجرد شيء من الانترنت.
هذا ولم يمض إلا 20 سنة على انتشار الإنترنت! فأي نوع من البشر ستنتج العقود المقبلة؟