حضرتُ مؤتمرا تناوب فيه عدة خبراء ومديري الحديث أمامنا في قاعة كبيرة، وقال أحد المتحدثين: الآن سنعطي نبذة عن كذا وكذا، وسيقدمها لكم فلان. فقام هذا الرجل الذي أعرفه وتكلم عن إحدى التقنيات الحديثة وحدّثنا عنها، تفاجأت فيما بعد لما علمت أنه أتى كمستمع وأنه ارتجل الكلمة في لحظتها!
أعجبني هذا، فالإلقاء فن وعلم، حتى المتحدثون والخطباء المحترفون يقضون سنين من الممارسة ليتقنوه، أما زميلي فيبدو أنه ممن مارسها كثيرا حتى صارت مهارة طبيعية لديه، يفاجئه أحد بطلب الإلقاء فيقف فورا ويتحدث بكلام مترابط مركز وبلا تلعثم.
الإلقاء فيه صعوبة طبيعية، لأن الإنسان عادة لا يحب أن يكون محط أنظار الناس وتركيزهم وتمحيصهم، حتى زعماء الدول يدربون أنفسهم باستمرار ورغم ذلك يجدون فيه تحديا، وأحد أشهر ملوك العرب وهو عبدالملك بن مروان سأله أحد الناس عن شيبه المبكر، فقال: وكيف لا وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة؟ وذلك أن الخليفة كان يخطب الجمعة.
رغم أن عبدالملك كان أفصح الناس وأوفرهم عقلا وأعظمهم ملكا، لكنه شعر بالضغط من الوقوف أمام الناس وعرْضِ كلامه وفكره عليهم. وقام أحد الولاة ذات مرة ليخطب فأُرتِج عليه – أي أُغلِق الكلام عليه ووقف صامتا عاجزا – فنزل وهو مهموم مغموم، فقالوا له وهم يواسونه: إن هذا أمر طبيعي، وإن أي أحد من الناس لو وقف أمام جمعٍ كبير كهذا لحصل له ما حصل للوالي، وفعلا طلبوا من أحد علية القوم أن يتكلم فذهب واثقا، ثم لما نظر للوجوه اللانهائية تنظر إليه التبس عليه الكلام، ثم قال: الحمدلله الذي يرزق هؤلاء، ونزل، فقالوا لغيره أن يخطب، فصعد وأُرتج عليه أيضا، فأشار إلى أحد الحضور وقال: اللهم العن هذه الصلعة!
إنه فن ليس بالسهل كما ترى، وتحية لكل من احترف الخطابة.