الفجوة التشاعرية

تخيل أنك تشاهد فصلاً في مدرسة. ترى طالباً يضايق طالباً ضعيفاً. تنظر للمدرس. إنه مشغول بتصحيح أوراق الاختبار. يلتفت المدرس للطالب العدواني ويرى فِعله، فيغمغم ببرود: يا فلان، لا تضايق علاناً. يعود للتصحيح كأن شيئاً لم يكن.

الآن ننتقل لمشهدٍ آخر. فصل دراسي آخر، وتلميذ شرير النزعة مثل الأول، يضايق تلميذاً أضعف. ينظر الشرير للمدرس فإذا هو منشغلٍ بشيء ما، فيلتفت للضعيف ويستمر في مضايقته، وما هو إلا قليل حتى يشعر بيدٍ تمسك ثوبه من الخلف وترفعه، وإذا بالمدرس الغاضب يزجره، فيَخْنَس وينزوي في كرسيه ذليلاً ويطلق الضعيف زفرة راحة.

ما الفرق بين المشهدين؟ لماذا بَرُد رد فعل المدرس الأول وسَخُن الآخر؟ ذاك مثال يوضح فكرة الفجوة التشاعرية empathy gap، مصطلح يصف انحيازاً تفكيرياً. الفجوة التشاعرية هي أن تعيش حالة نفسية أو تعتنق رأياً بلا اكتراث للرأي الآخر أو أي حالة نفسية أخرى، فأنت ترى العالم من هذا المنظار ويوحي لك هذا الانحياز أنْ ليس ثمة منظار غيره، وهي من الأخطاء التفكيرية التي توقع الناس في شِراكها الخفية.

في المثال الأعلى لدينا مُدرّسان، الأول لم يهتم كثيراً بتنمُّر طفل على آخر واكتفى بعبارة باردة قصيرة وانتهى الموضوع بالنسبة له. لقد حالت الفجوة بينه وبين التعاطف مع الطالب لأنه لم يضع نفسه مكانه. أما المدرس الآخر فقد وضع نفسه مكان الطالب الضعيف قليلاً، وربما هو كان ضحية للتَنَمُّر في صِغَره، المهم أنه استطاع أن يشعر بمشاعر الطالب ويضع نفسه مكانه (وهو ما يسمى التشاعر empathy)، وأعطى المسألة حقها من الاهتمام.

الفجوة التشاعرية من المساوئ التي تسبب الضرر ليس فقط على المستوى الشخصي (كأن تُحرم الأجر لأنك لا تتعاطف مع مسكين جائع فلا تتصدق)، أو على المستوى الاجتماعي (اتجاه البعض للسرقة لأنهم حُرِموا العمل والصدقة والتعاطف) بل حتى على المستوى الدولي، فتنظر أمّة قوية لضعيفة على أنها «شيء» وليس كياناً يتكون من بشر لهم أرواح وأحاسيس، فلا يشعر الجنود بالتعاطف أو حتى التشاعر إذا ارتكبوا جرائم حرب لأنهم – عقلياً ونفسياً – بعيدون عن تلك الحالة المستضعفة، فيحثهم هذا على الاستمرار في العدوان بل الإمعان فيه. وانظر إلى شخص يؤذي حيواناً بلا سبب، لكن لو أن الشخص تخيل أن يؤذى هو بلا سبب أو لو أوذي بنفس الطريقة فعلاً لَما فعل هذا، لأن الفجوة زالت، وصار يشعر بشعور الحيوان.

في الكثير من الأحيان سينفعك أن تُخرج نفسك من ذهنيتك المعتادة وتتخيل نفسك في الموقف الآخر. أي شيء يقلل الفجوة التشاعرية سترى منه فائدة وافرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *