اكتُب!
نعم، أنت أيها القارئ، اكتب!
اكتب مذكراتك. اكتب مقالة. اكتب تحليلاً. اكتب أي شيء. أهم شيء: اكتب.
كم أتأسف إذا رأيت الناس (وربما بعضهم من المثقفين القارئين) وعرفت أنهم لا يكتبون ويكتفون بالقراءة. أفكارهم تضيع. خواطرهم تتلاشى. ذكاؤهم مقيّد، لا يعلمه غيرهم. ونِعْم بالقراءة، فهي سبيلٌ إلى العظمة إن أُحسِنَت، غير أنّ الكتابة جانبٌ آخر لا يقل عنها روعة.
لا يحتاج أن تكون شديد الاطلاع لتكتب. لا يجب أن تكون صحفياً أو عالماً أو متخصصاً. لا تحتاج إلا شيئين: قلم وقريحة. اجعلهما يسيلان!
أنا كإنسان أكتب فتتجلى خواطري ومشاعري أمام العالم. ها أنا موجود! إنني جزء من هذه المنظومة.. من هذا الوجود. هل ترى أفكاراً مكتوبة أتت من العدم؟ أترى أناساً لم يخلقوا بعد ينثرون مكنون أنفسهم أمامك؟ محال! الكتابة صوت من لا صوت له. ليس الأبكم فقط بل المهمشون والمنسيون.. أياً كانوا. ما أن يُفرغ أحدهم عصارة عقله وروحه على تلك الورقة حتى يقول الكون: «أنا أستمع.. ولو تصامَمَ عنك الناس». لك صوت الآن ولا يهم إن سمعه أحد. أنت تسمعه. الوجود يسمعه.
الكتابة فيها نوع من الخلود.. تخليد لك.. لاسمك وكيانك.. وحتى لو لم ينتقل اسمك من جيل إلى جيل فيكفي أن تنتقل أفكارك ومشاعرك.. فهذه فعلاً ما يميزك عن غيرك ويصنع شخصيتك وليس اسماً سُميت به لما قدمت للعالم. إنني أقرأ مقالة «العام الجديد» للمنفلوطي فأرى مشاعره الجياشة تضيء الصفحة.. أو لعلها تُظلِمها! فقد كان في مزاجٍ سوداوي لما كتبها.. يتساءل لِمَ يهنئ الناس بعضهم بالعام الجديد والعالم فيه ما فيه من أحزان وتقلبات وقبائح. لو لم يكتبها لما بارحت نفسه ولتلاشت عندما انطفأت تلك الجذوة الفريدة رحمها الله. توفي قبل قرابة 100 سنة لكن بقيت مشاعره وخواطره.. نراها.. نشعر بها.. لها وزن.. لم تختف باختفائه. نوع من الخلود.
لا يلزم أن تكون بارعاً أو أديباً شهيراً لتكتب.. فقط اكتب. اكتب مشاعرك.. اكتب خواطرك.. أفكارك. اكتب في ورقة.. في مدونة.. في نشرة مدرسة.. اكتب لأصدقائك.. اكتبي لزوجك.. اكتب ليبقى أثرك الطيب في هذه الدنيا ولو بعد عشرات أو مئات السنين.. يراها أهل المستقبل.. لا يرونك.. لا يسمعونك.. ومع ذلك.. أنت موجود.