أنت في طريقك، تقتحم الطريق أمامك سيارة تسير بتخبّط حتى تكاد تصدمها، كيف تشعر؟ بالغضب، بالضغط النفسي، موقف كهذا تستمر مشاعره ساعات أو حتى اليوم كله؛ الغضب شعور قوي.
الآن، تخيل أنك علمت أن السائق ليس مراهقاً متهوراً بل هو رجل معه طفله في وضع صحي طارئ، والرجل يسرع للمستشفى لينقذ ابنه؟ يزول الغضب.
الكثير يرى كل إساءة تحدث له مقصودة، أي كلمة لا توافق معاييره فهي ضده. الأسوأ أنه يطبق نفس الميزان المختل مع أحب الناس إليه، ومع الطيبين والصالحين، فإذا رأى من أحدهم شيئاً يُسيئُه (مكالمة لم يرد عليها صديق، لم يسلم عليه جاره ذات مرة) وَضَع أسوأ التفسيرات، وأنه تصرُّف متعمَّد .
أعجبتني مقولة ابن سيرين: «إذا بلغك عن أخيك شيٌ فالتمس له عذراً، فإن لم تجد له عذراً فقل لعل له عذراً لا أعرفه». هذا المبدأ له أصول شرعية قانونية، من مبادئ الحدود الشرعية أن لا نتعجل في تطبيق الحد إلا بعد استنفاد كل عذرٍ ممكن، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: «ادرؤوا الحدود بالشبهات».هو المبدأ نفسه الذي طبَّقه عمر رضي الله عنه مع الحطيئة، فقد هجا أحد الناس بالبيت المعروف: دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبُغيَتِها…واقعدْ فإنَّك أنتَ الطَّاعمُ الكاسي. اشتكى المشتوم لِعُمَر، وعُمَر أفقه وأعلم الناس، وحتى مع الحطيئة استنفد عمر الأعذار فقال للمشتكي: ما أسمع هجاء، أما ترضى أن تكون طاعماً كاسياً؟ فأصر الشاتم على الشكوى، واستشار عُمر حسان بن ثابت رضي الله عنه – فأكّد أن البيت شتمٌ صريح، رغم أن عُمَر يعرف.
تطبيق المبدأ ليس قانونياً فحسب بل شخصياً، وتطبيقنا على أنفسنا يعطينا حياةً نفسية واجتماعية هادئة مريحة كما رأينا في صدر المقالة. والمبدأ هو: لا تفسر الأمور كلها بسلبية، ولا تكوّم هذه المشاعر داخلك. إن إعادة تقييمك للفكرة وتغييرك لنظرتك لها (التي تُسمى في علم النفس cognitive reappraisal) ) يقلل هرمونات الضغط النفسي في المخ.
وقد ثبت هذا من الرنين المغناطيسي في التجارب، أي أن تغيير الفكرة أنفع بكثير من كتمان المشاعر السلبية أو تجاهلها. بما أنك لا تضمن أن أفعال الناس المشابهة للمثال الأعلى (السائق الجنوني) آتية من سوء نية فالأفضل أن تفترض أسباباً أفضل تجعلك تتفهم أو حتى تتعاطف مع أصحابها. هذا الأفضل لنفسيتك، والأفضل لعلاقاتك. وهذا المبدأ تقدر أن تطبقه ليس فقط مع معارفك بل حتى مع من لا تعرفهم، كمن يفعل شيئاً يغضبك أو يحزنك في الأماكن العامة، فالكل ينسى ويسهو ويخطئ، والكثير منشغل البال بهمومٍ وغموم.
وخذ العِبرة من نملة! قال القرآن عن نبي الله سليمان وجيشه: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}، فلاحظ أنها قالت {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}، فالتمستْ للإنسان عذراً (لا يشعر بها لصغرها وانشغاله)، وإن أبادها وقومها.