في أول حلقة وأول حوار في مسلسل ساينفلد Seinfeld، يتحاور “جورج كوستانزا” وصديقه “جيري ساينفلد” في مقهى، يشير جيري إلى زر قميص جورج ويقول: «هذا الزر في أسوأ موضع! إن الزر الثاني هو سبب فشل أو نجاح أي قميص، وزرك الثاني بالغ الارتفاع، كأنه ضائع في أرض قاحلة مجهولة، تبدو مثل شخص يعيش مع أمه!»
من أدرك التسعينات سيعرف حجم مسلسل ساينفلد، كان ثورة تلفازية، ظاهرة ثقافية، لم يرَ الناس مثله من قبل، لعدة أسباب، أبرزها عبقريته الفكاهية. نقابة الكاتبين الأمريكية صوّتت على أفضل 101 مسلسل وفاز ساينفلد باختيارهم كثاني أفضل مسلسل كتابة في تاريخ التلفاز.
لو أردنا تحليل أسباب عبقرية المسلسل فهذا أمر يَطول، لكن ما أريد التركيز عليه هو جانب محدد: الحوارات اليومية بين الأصدقاء الأربعة – جورج كوستانزا، جيري ساينفلد، إيلين بينيس، كريمر – هي عن أشياء عادية جدا جدا، بل ربما تافهة في نظر الكثيرين!
إنهم لا يتكلمون باستمرار عن أحداث العالم، معنى الحياة، السياسة، الاقتصاد، العلم، التاريخ، الثقافة. خذ عينة من حواراتهم:
المشهد: جيري وإيلين سيسافران لحضور أداء فكاهي لجيري، لكن أُلغِيَت رحلتهما، يقفان أمام مكتب الخطوط لمحاولة البحث عن رحلة أخرى.
جيري+إيلين (للمسؤولة): أُلغِيَت رحلتنا؟!؟!
مسؤولة الخطوط: كل شيء في مطار جون كنيدي محجوز… لا، لحظة، لدي مقعدان إلى مطار لاغوارديا، لكنهما ليسا معًا. وقت الركوب بدأ.
جيري: سنأخذ التذكرتين!
إيلين: ألن نجلس معا؟
جيري: وماذا في ذلك؟ إنها ليست رحلة طويلة، اقطعيها بالقراءة.
إيلين: ماذا عن جورج؟ من المفترض أن يصطحبنا من مطار كينيدي.
جيري: سوف نتصل به ونخبره.
إيلين: ليس هناك وقت!
جيري: لا وقت؟ [للمسؤولة] هل هناك وقت؟
المسؤولة: ليس هناك وقت.
جيري: ليس هناك وقت. حسنًا، سوف نتصل به من الطائرة.
المسؤولة: لدي مقعد واحد في الدرجة الأولى، وواحد في السياحية. سنعطيكم نفس السعر بما أننا ألغينا رحلتكم.
(يسود جو مُحرِج من الصمت بينما جيري وإيلين يفكران إلى من ستذهب تذكرة الدرجة الأولى)
جيري يخرج عن صمته: سآخذ الدرجة الأولى!
إيلين: جيري!!
جيري: ماذا؟
إيلين: لماذا أنت تأخذ الدرجة الأولى؟
جيري: إيلين، هل سبق لك أن سافرت في الدرجة الأولى؟
إيلين: لا.
جيري: حسنًا إذن، لن تعرفي ما تفتقدين! أنا جربت الدرجة الأولى من قبل، إيلين، لا أستطيع العودة إلى الدرجة السياحية، لا أستطيع، بل أرفض!
أو حوار كهذا، يجلس جيري وجورج على عتبة يتحاوران:
جورج: لنفترض أنك وأنا وكريمر نطير فوق جبال الأنديز.
جيري: لماذا نطير فوق جبال الأنديز؟
جورج: لدينا مباراة كرة قدم في تشيلي. على أية حال، تحطمت الطائرة. من الذي ستأكله لتعيش؟
جيري : كريمر.
جورج: بهذه السرعة؟ ماذا عني؟
جيري : لا.
جورج : كريمر لحمه خيطي وليفيّ. أنا ممتلئ الجسم، طري.
جيري: كريمر لديه عضلات وبروتين أكثر، إنه أفضل للصحة.
جورج: أنا اختياري أن آكلك أنت.
جيري: هذا لطف منك، أعتقد.
جورج: ما زلت لا أفهم لماذا لا تأكلني! أنا أفضل صديق لك!!
جيري: طيب لا بأس، إذا كان هناك أشخاص آخرون يتناولون بعضًا منك، فسأحاول تجربتك.
جورج : شكرا لك.
لذلك اشتهر ساينفلد أنه مسلسل عن لا شيء A show about nothing، لكنها تقال بتقدير، لأن عبقريته هي في تحويل حوارات كهذه إلى مشاهد تتلذذ بها ولا تستطيع أن تتوقف عن مشاهدتها وإعادة مشاهدتها!
وكلما فكرتُ، رأيت أن هذه اليوميات العادية هي سر الحياة المرتاحة!
أشد الناس بؤسا هو محب الفلسفة، المفكر، الباحث عن معنى أعمق للحياة.
هذه العقليات ستحتقر حوارا تسمعه في الشارع مثلا عن العلك أو الخوخ أو التدليك أو السونا أو أي من مواضيع الحوارات الكثيرة التي أتت في ساينفلد، لكن أي سعادة أو راحة تأتي من الغوص في الأسئلة العميقة كمعنى الوجود؟ وهي أسئلة لا تنتهي، ما أن تجد ضالتك حتى تبدأ رحلة أخرى مضطربة قلقة.
نعم، ستشعر أنك فوق مستوى الشخص العادي، قد ترى أن عامة الناس يعيشون في وضع آلي، يصحو يعمل يأكل ينام، وهكذا دواليك، عشرات السنين، حتى يموت، وانتهينا. كثير التفكير يحتقر حياة كهذه، لكن كما قال المتنبي: أخو الجهل في الجهالة ينعم.
في هذا السياق، ليس الجهل شيئا سيئا. إنه وضعنا لما كنا أطفالا، كنا إخوان الجهالة، ننعم في غفلتنا عن قبائح الحياة ومصائب الأمم وكوارث الأزمان وأخطار المستقبل وآلام الماضي، تعيش لحظتك، تشاكس أختك، تجادل أمك عن استحقاقك للحلوى، تريد 5 دقائق أكثر مع التلفاز، لا تريد أن تنام الآن، أروع حياة! لا قلق ولا اكتئاب، تركب أمواج اللحظة باستمرار.
تخيل بدلا من حوارات بسيطة بريئة كهذه، تقضي أوقات كثيرة تسرح في أسئلة مثل: لماذا أنا موجود؟ لماذا يوجد الألم والمعاناة؟ كيف أفسّر الظلم الشنيع في هذا العالم؟ هل حققت كل إمكاناتي أم أني سأحترق اضطرابا محاولا تحقيق الذات self-actualization وهو أعلى مستوى على هرم ماسلو؟الخوف من الموت، الصراع مع فوبيا، البحث في أصل الوعي، مُسيَّر أم مُخيَّر، حدود الإدراك البشري، العزلة والاغتراب، النسبية الأخلاقية، من يتخلل يومه هذا التيار فهو في عذاب وإن ظن أن هذه ضرورات ترفع مستواه كمفكر يجب أن يستخدم عقله في أعالي الأمور.
تباً لذلك!
سر الحياة المرتاحة أن تستمتع باللحظات الصغيرة، والمتع الضئيلة، والحوارات العادية.
مثلما يفعل الرفاق في ساينفلد، غص في الحوارات “التافهة” حتى النخاع، تلذذ بالعادي، اِعشق الشائع، أمسك بالعابر، عِش!