فاتحة
(تنبيه: التقييم يحتوي حوارق spoilers)
هذا الفيلم يتكون من حوارات في أماكن مغلقة، ومع ذلك هو من أمتع الأفلام التي يمكن أن تراها!
الفيلم اقتباس لمسرحية كتبها الأديب المبدع “ديفد ماميت”، يحكي قصة مندوبي مبيعات عقار أتاهم إنذار صارم: مبيعاتكم متدنية، بنهاية الشهر كلكم مفصول عدا أعلى 2 منكم مبيعات. أتى هذا الإنذار من مدير لم يروه من قبل، أتى من المركز الرئيسي ليصب عليهم أنواعاً مذهلة من الشتم والإذلال والصراخ، ولم يجرؤ أحد على الرد على وقاحته وفظاظته لأنهم يحتاجون وظائفهم بشدة.
يدور الحوار في هذا الفلم ببراعة وتشويق نادرين، وهذا معتاد من كتابات المؤلف ماميت وقدراته السحرية في كتابه نص يجمع بين المتعة والواقعية، وطريقة التفاعل بين الجُمل والحوارات بل حتى التناغم غير المتوقع الذي يحصل أثناء مقاطعة اثنين لبعضهما وهما يتحاوران باندفاع! الكلمات التي يلفظونها لها لذة في السمع رغم امتلائها بالسب البذيء! انسياب مدهش في نعومته، قطعة موسيقية تفيض بالشجن والروعة، الكلمات تتراقص على ألسنة الشخصيات رقصة فاتنة، في كل حركة من لذة الحوار ما يُدهش ويأسر.
وما أروع تلك المقاطعات التي تندفع بها الشخصيات أثناء الحوار، كأنها اشتباك بين أمواج متلاطمة، لم أتخيل من قبل أن المقاطعة يمكن أن تكون جزءاً من فن كتابة الحوار! الكلمات التي تُقال – وإن كانت مغمورة بالحدة والتهكم والبذاءة أحيانا – تأتي بعذوبة غريبة.
ديفد ماميت رسم عالمًا من الكلمات يُشبه قماشة حريرية ناعمة الملمس تتلون بأطياف متعددة، وتجعل المشاهد يتذوق الحوارات وكأنها طعام فاخر، كل لقمة منه تحمل طعمًا مختلفًا، وكل طعم يثير شهية لمزيد. إنها متعة لا تنقضي!
الشخصيات
أداء الممثلين رائع، ولديك طاقم أبدعوا في جمعه، هناك 4 مناديب مبيعات و3 شخصيات أساسية أخرى، لنبدأ بالمناديب الأربعة:
آل باتشينو في شخصية البائع الأنجح ريكي روما، حاذق مصقول اللسان ماكر ماهر، تراقب حواره مع زبون محتمل في المطعم وتعرف سبب تفوقه على الآخرين الذين يبادرون الناس بمحاولة البيع، بينما هو يكلمهم بشكلٍ يبدو عَرضيا لامباليا هادئا رغم أنها كلها مسرحية وهدفه النهائي أن يبيعهم عقار!
إد هاريس في شخصية ديف موس، يحسد روما على نجاحه وغاضب وانفجاري دوما، لا يتوقف عن التذمر بل وشتم مدير المكتب ويليامسون.
آلان آركن في شخصية جورج أرانو، جورج ليس لديه ثقة وقوة شخصية روما ولا اندفاع موس، جورج صاحب ضعف وتردد.
جاك ليمون في شخصية شيلي لافين، أكبرهم سناً، البائع الآفل، ذهبت أمجاده، ابنته مريضة وتحتاج رعاية طبية مكلفة مما يجعله أشدهم احتياجا لوظيفته رغم رداءتها ومهانتها.
أما الشخصيات الثلاث الأخرى فهي بليك، ومدير المكتب ويليامسون، والزبون جيم لينك.
ترى القسوة المفرطة في المجتمع الرأسمالي الذي يطأ على البشر من أجل حفنة مال، وكيف يتعامل الموظفون مع هذا الإنذار، فيفرون فزعين إلى الهواتف يكلمون أناسا لا يعرفونهم يحاولون بيأس أن يبيعوهم أراضٍ لا يريدونها، وتظهر الأخلاق الحقيقية في الأوقات العصيبة، فمن يصرخ على زميله، ومن يفكر في السرقة، ومن يلوم كل شيء وكل شخص إلا نفسه. دعونا نغوص في الشخصيات الأربع الأساسية…
جورج آرانو: الوجه الخاضع في لعبة البقاء
جورج آرانو هو الشخصية الأكثر ضعفًا وخضوعًا بين مندوبي المبيعات الأربعة. إنه رجل يتسم بالتردد والخوف، يفتقر إلى الثقة بالنفس والقوة اللازمة لمجابهة الظروف القاسية التي يفرضها عمله. جورج لا يمتلك كاريزما ريكي روما ولا غضب ديف موس ولا حتى حنين شيلي لافين إلى الماضي، إنه أشبه بظلٍ باهت يتنقل بين الحوارات دون أن يترك أثراً واضحاً.
يتعرض جورج في الفيلم لمحاولة إقناع ديف موس بالانضمام إلى خطة سرقة القوائم. أسلوب موس العدواني المبطن بالإقناع يستغل تردد جورج وضعفه، لكنه في النهاية يثبت أنه غير قادر على اتخاذ موقف. جورج يمثل نوعاً مختلفاً من المأساة: مأساة الشخص الذي يدرك ضعفه ولكنه عاجز عن تجاوزه. سأتفصل في هذا المشهد.
جورج آرانو هو صورة لرجل يحاول البقاء في عالم لا يرحم، لكنه يفتقر إلى الأدوات التي تمكنه من القتال. ضعفه وتردده يجعلان منه شخصية مؤثرة، ليس لأنه يصارع الآخرين، بل لأنه يصارع نفسه ويخسر في كل مرة.
ريكي روما، وسحر الخداع
ريكي خليط مبهر من الصفات: إنه محتال، إنه جذاب، إنه انتهازي وبليغ، عندما يتكلم يسحر لبك، هناك شيء فائق الجاذبية في كلامه، يستطيع أن يتكلم عن لاشيء – مثل الحر أو رائحة القطار – ومع ذلك يجعلك تنصت بانبهار. نغمته مغرية وهادئة، يتكلم بثقة لا حدود لها، ليس مثل ديف موس الذي تشعر بنوع من الحدة والعدوانية متخفية في كلامه، أو جورج آرانو الذي إذا حاول أن يبيعك أرضا تشعر بالضعف والتردد في ثنايا كلامه، أو شيلي لافين الذي يبدو كشيخٍ لطيف لكن تلمس فيه التملّق والاصطناع، إن ريكي لا يلح ولا يضغط عليك، يحاورك بعفوية وكأنه شخص عشوائي في المطعم أو البار لا يريد إلا محادثة عابرة ممتعة، وهذا ما يجعله أنجح الأربعة.
طريقة ريكي في إيقاع الناس في حبائله ليشتروا العقارات والأراضي بارعة، إنه يبدأ معك حوارا عن الطقس مثلا وبعد قليل وإذا بك تشعر أنه أعز أصدقائك، حينها يقترح عليك بسلاسة مدهشة أن تشتري أرضا في فلوريدا الجميلة، وتجد نفسك توافق!
نراه مع ضحيته الأخيرة، جيم لينك، رجل ذو شخصية ضعيفة مترددة، يدخل في حوار مع ريكي يبدو في البداية كأنه حديث عابر عن الحياة والفرص الضائعة، لكنه في الحقيقة مسرحية كتبها ريكي بحرفية عالية. ريكي يتحدث عن الفلسفة، عن الحظ، عن القرارات المصيرية، يجعل جيم يشعر وكأن شراء العقار ليس مجرد صفقة، بل هو قرار يغير حياته للأفضل. إنه لا يبيع قطعة أرض، بل يبيع الأمل، الأمان، والإحساس بالسيطرة.
لكن روما، كما نكتشف تدريجياً، ليس أقل دناءة من ديف موس أو ميتش وموري. إنه يعرف نقاط ضعف الناس ويلعب عليها ببراعة. مع جيم، لم يكن الحديث عن العقار في البداية، بل عن كيف أن الحياة قصيرة وأن الإنسان يحتاج إلى أن “يخاطر” ليشعر أنه حي. ريكي لا يؤمن بأي شيء مما يقول، إنه فقط يردد ما يريده الآخرون سماعه، وما يخدم مصلحته.
حين يعود جيم في اليوم التالي للتراجع عن الصفقة، يظهر وجه ريكي الآخر، وجه الغضب المحترف الذي يحوّل اللوم بالكامل إلى الآخرين، بل ويحاول استعادة السيطرة على الموقف بالضغط النفسي على جيم، وإقناعه بأن الخطأ ليس في الصفقة، بل في نفسه.
ريكي روما ليس شخصية شريرة بالمعنى التقليدي، لكنه يمثل الشر الناعم، الشر المغطى بسحر الكاريزما. إنه الرجل الذي يمكنه أن يضحك معك ويمد يده لمصافحتك، بينما يسرقك في نفس اللحظة. إذا كان ديف موس يلعب على الحقد والغضب، فإن ريكي يلعب على الطموح والحلم. لكنه في النهاية، مثل الجميع في المكتب، ضحية لنفس اللعبة: لعبة الأرقام، لعبة المبيعات، لعبة البقاء في عالم لا يرحم.
ديف موس، سفير الفوضى
ديف موس هو تجسيد للغضب المكبوت، للغليان الداخلي الذي يبحث عن مخرج. إنه الرجل الذي يشعر أنه قد ظُلم من النظام أو المجتمع، وأنه يستحق أكثر مما يحصل عليه، لكنه بدلاً من مواجهة النظام نفسه يوجه غضبه نحو زملائه، نحو كل من يمكن. ديف موس ليس مندوب مبيعات تقليدي؛ إنه مفكر استراتيجي، ولكنه مفكر بالاتجاه الخاطئ. إنه لا يبحث عن تحسين وضعه بالطريقة الصحيحة، بل يبحث عن الانتقام، عن الانتصار بأي ثمن.
أسلوب ديف موس في الإقناع ليس مثل أسلوب زملائه بل أشبه بجندي في معركة: عدواني، مباشر، وقاتل إذا لزم الأمر. لكنه يعرف كيف يخفي عدوانيته تحت قناع من الود الظاهري. عندما يحاول إقناع جورج آرانو بالانضمام إلى خطته لسرقة وثائق هامة، نراه يستخدم كل أداة في جعبته: التملق، الغضب، وحتى التلاعب العاطفي. يبدأ بالتحدث عن النظام الظالم وكيف أنهم جميعًا ضحايا، ثم ينتقل إلى الهجوم على ميتش وموري، واصفًا إياهما بالوحوش الجشعة (وهو هنا محق!). ولكنه لا يتوقف عند هذا الحد؛ بل يحاول تحويل جورج إلى شريك في الجريمة، ليشاركه عبء الخطأ.
موس بارع في استغلال نقاط ضعف الآخرين. يعرف أن جورج ضعيف وخائف، ولهذا يختار اللعب على وتر الحقد الداخلي، مشجعًا إياه على اتخاذ موقف. لكن ديف ليس رجلًا يعتمد على الآخرين؛ هو في النهاية ذئب وحيد، يقاتل من أجل بقائه، حتى لو كان ذلك يعني التضحية بكل من حوله.
ديف موس هو الوجه الأكثر حدة ووضوحاً للشر في المكتب. إنه الرجل الذي لا يملك سحراً مثل ريكي روما، ولا حنيناً مثل شيلي لافين. إنه يمثل الغضب الخام، العنف المكبوت، السعي العنيف للبقاء في عالم يلتهم الضعفاء.
شيلي لافين، المأساة المبطنة بالتملق
شيلي “ذا ماشين” لافين هو رجل من عصرٍ آخر، أو كما يعتقد هو. مندوب مبيعات عتيق يعتز بماضيه المشرق عندما كان الأفضل، عندما كانت “الماكينة” لا تخطئ، عندما كان الجميع يخشونه ويحترمونه. ولكن الآن، شيلي يعاني في عالمٍ تجاوز أساليبه القديمة، عالمٍ لم يعد يكافئ المجاملة والتملق كما كان في السابق. إنه رجل عالق في الماضي، يطارد مجداً انقضى، ويحاول استعادته بكل وسيلة، حتى لو كانت تلك الوسائل تتضمن الكذب أو الخداع أو التوسل. كبر سنه لا يعني أي شيء في هذا العالم القاسي.
أسلوب شيلي في المبيعات يرتكز على محاولة خلق علاقة حميمة زائفة مع زبائنه. يحاول أن يكون الرفيق، الأب الحنون، الجار الطيب. يبدأ حديثه بإطراء مبالغ فيه، يتكلم بصوت منخفض وكأنه يشارك صديقه الحميم سراً. ولكن خلف هذه الواجهة المهذبة، هناك حاجة ملحة للنجاح، حاجة تحركه في كل خطوة. الوقت ليس في صالحه، كل ثانية محسوبة ضده، وظيفته على المحك وعليه أن يوصل تملّقه إلى أقصى درجة ممكنة.
نرى لافين في محاولة بائسة لبيع قطعة أرض لعائلة، مشهد يختصر مأساته. يحاول إقناعهم بأنه يهتم بمصلحتهم، ولكن أسلوبه المتوسل يظهر نقاط ضعفه أكثر مما يخفيها. إنه لا يبيع حلماً أو أماناً كما يفعل ريكي روما، بل يبيع ذكرياته، يبيع صورته عن نفسه عندما كان “ذا ماشين” الذي لا يهزم.
في لحظة ضعف، يحاول سرقة القوائم والتي تأتي في الفيلم باسم the leads وهي قوائم زبائن محتملين أبدوا رغبتهم في معرفة المزيد عن العقارات، وذلك ليضمن مستقبله. إنها محاولة أخيرة يائسة، لكنها تكشف عن مدى هشاشته. عندما يُكشف أمره، نرى رجلاً محطمًا، لا فقط في عيون الآخرين، ولكن في عينيه هو. شيلي لافين هو تجسيد للمأساة الإنسانية: رجل طارد حلماً حتى تحول الحلم إلى كابوس، محاولاً النجاة في لعبة لا ترحم.
هؤلاء هم الأربعة الرئيسيون، لكن لننظر إلى شخصيات مبهرة أخرى:
بليك، الدمار الآتي من السماء
بليك Blake هو شخص لم يروه من قبل، كل ما يعرفونه أن هناك اجتماع دعا إليه مدير المكتب ويليامسون، وقال لهم أنهم هام وحذّرهم من التغيب عنه، لما اجتمعوا في المكتب رأوا رجلاً لم يروه من قبل وهو بليك (لا يأتي اسمه في الفيلم وإنما عرفنا خارج إطار الفيلم)، يتساءلون من هو فيما بينهم، لا أحد يعرف، يبدأ فيقول: أعطوني انتباهكم، سأتكلم عن شيء هام. أثناءها شيلي عند آلة القهوة يصب لنفسه كوبا، يهتف به بليك بصرامة: اترك تلك القهوة! ينظر إليه شيلي محتارا. يكمل بليك: القهوة فقط لمن يبيعون. يضحك شيلي من غرابة العبارة. يتجه له بليك وهو يحدق في عينيه قائلا: هل تظنني أمزح معك؟ أنت اسمك شيلي؟ يرد: نعم. ينظر له بليك بازدراء ويقول: هل تسمي نفسك مندوب مبيعات أيها الحقير؟ يهبُّ موس واقفا ويلبس الجاكيت ويقول: لا أحتاج أن أسمع هذه السخافات. يلتفت له بليك ويصيح به: “كلامك صحيح تماما لأنك مفصول، كلكم مفصولون، لديكم فرصة أخيرة للإبقاء على وظائفكم، بدءاً من الليلة. هل حصلت على انتباهكم الآن؟”. ثم يعطيهم من الشتم البذيء والصراخ والتحقير ما يذهلك، يندفع بقوة بركان ثائر لا يوقفه شيء.
الظريف أن شخصية بليك ليست موجودة في النص المسرحي الأصلي، وكُتِبَت خصيصاً للفيلم، أداها أليك بولدوين ببراعة، المشهد قصير جداً وليس لبليك أي ظهور آخر، لكن إلى الآن وكل من شاهد الفيلم يقول أنه من أقوى المشاهد ولا يُنسَى! هذا الموقف هو المحرك الذي يدفع المناديب الأربعة أن يبدأوا مذعورين في المكالمات والزيارات محاولين بيع العقارات لأي شخص بيأسٍ منقطع النظير.
جيم لينك، حَمَل بين الذئاب
من بين الذئاب المتوحشة في عالم هؤلاء، يبرز حَمَل وديع، وهو جيم لينك. رجل متردد ضعيف الشخصية، سرعان ما يصبح الهدف المثالي لريكي روما الذي يبرع في استغلال مثل هذا التردد.
لينك ليس مجرد ضحية، بل هو شخص يحلم بالاستقلالية ولكنه يفتقر إلى الثقة لاتخاذ قرارات بنفسه، حتى زوجته لها اليد العليا في البيت كما يتضح من كلامه، ورعبه من مواجهتها. هذا التناقض يجعل روما قادراً على التأثير عليه بسهولة. ريكي لا يبيع لينك قطعة أرض فقط، إنه يبيع له الأمان، الأمل، الشعور بالسيطرة على حياته. ينسج روما – في المطعم الذي كان لينك يجلس فيه وحيدا يشرب – بسلاسة مدهشة حكاية عن الحياة والفرص المفقودة، مقنعًا لينك أن شراء قطعة الأرض هو أكثر من مجرد صفقة، إنه خطوة نحو حياة أفضل.
لكن كما نرى لاحقًا هذا الحلم الذي اشتراه لينك ليس حقيقياً. عندما يواجه اعتراض زوجته على الصفقة، يعود ليحاول التراجع عنها، ويتحول إلى شخص مرتبك وعاجز أمام شخصية روما القوية. هذه اللحظة تُظهر جوهر مأساة لينك، فهو ليس قادرًا على مقاومة التلاعب، لكنه أيضًا غير مستعد لتحمل تبعات اتخاذ موقف مستقل. إنه بين المطرقة والسندان.
لينك شخصية تجسد الصراع الإنساني بين الرغبة في تحقيق الذات والخوف من الفشل. وجوده في القصة يكشف عن الجانب القاسي لنظام المبيعات، حيث يصبح الإنسان أداة لتحقيق الأهداف. هذه التراجيديا البسيطة تجعله شخصية ذات صدى عميق، فهو ليس مجرد عميل تعرض للخداع، بل تمثيل للضعف البشري، للصراعات الداخلية التي قد تسيطر على أي شخص في موقف مشابه.
ويليامسون، الآلة الباردة
جون ويليامسون يمثل دور مدير المكتب، الشخصية المسؤولة عن إدارة العملية، ولكنه في الحقيقة يبدو أقرب إلى ترس بيروقراطي، حاجز بلا روح، آلة باردة لا تعبر عن أي تعاطف أو إنسانية مع من يعملون تحت قيادته. لا يمتلك مهارات البيع، ولا يشارك في لعبة المبيعات المحمومة، بل يمارس سلطته الإدارية فقط منفذا أوامر ميتش و موري (مالكا الشركة). لكنه رغم هذا، له دور محوري في تحديد مصير الجميع، حيث يتحكم بالقوائم الذهبية التي يعتمد عليها البائعون لتحقيق مبيعاتهم.
ويليامسون يجسد النظام نفسه، النظام الذي يهمش الأفراد ويعاملهم كأرقام. لا يهتم بمشاعر من حوله أو بمعاناتهم (مثلا ابنة شيلي المريضة)، ما يهمه هو تحقيق النتائج التي تطلبها الإدارة العليا. أسلوبه في التعامل مباشر وقاسٍ، ولا يتردد في استخدام سلطته لفرض سيطرته على المكتب. عندما يطلب منه شيلي لافين الحصول على قوائم أفضل، نراه يتعامل معه باستخفاف، ويرفض طلبه إلا إذا دفع رشوة، مستغلاً حاجته الماسة لتحقيق مبيعات بأي طريقة.
في مشهد المواجهة مع ريكي روما، يظهر الوجه الحقيقي لويليامسون كمدير غير كفء. خطأ صغير في كلامه أمام الزبون لينك يكلف المكتب صفقة كبرى، مما يدفع روما إلى انفجار غضب عارم عليه. هذا الخطأ يكشف عن عجز ويليامسون عن فهم الجانب النفسي أو الإنساني في عملية البيع، فهو لا يرى سوى الأرقام والتعليمات.
لكن على الرغم من ضعفه كمدير، إلا أن ويليامسون يملك ورقة قوة: سلطته المطلقة على توزيع القوائم. هذا يجعله عقبة أساسية أمام البائعين، ويدفعهم إلى استجدائه أو حتى التحايل عليه للحصول على الفرص. إنه أشبه بحارس بوابة، لكنه حارس لا يرحم ولا يهتم إلا بمصالحه الخاصة.
ويليامسون ليس شريراً بالطريقة التقليدية، لكنه جزء لا يتجزأ من النظام القاسي الذي يحكم المكتب. دوره يكشف كيف أن البيروقراطية والإدارة غير الكفؤة يمكن أن تزيد من معاناة الناس، وكيف أن غياب القيادة الحقيقية قد يحول العمل إلى بيئة قمعية تسحق الأرواح بدلاً من أن تلهمها. ويليامسون هو رمز للآلية الباردة التي تتحكم بمصائر الجميع، لكنه في النهاية ليس أقوى منهم، بل مجرد ترس في ماكينة أكبر منه.
تأملات في بعض المشاهد
الصقور الليلية
جذب انتباهي هذا المشهد، في هذا المقهى يدور حوار بين موس وأرانو، واللقطة من الخارج شبيهة جدا برسمة شهيرة وهي لوحة إدوارد هوبر الشهيرة “Nighthawks” (الصقور الليلية) التي رسمها عام 1942م. اللوحة تُظهر مطعماً في الليل، يُرى من الخارج، بإضاءة خضراء تميل إلى الصفرة، وأشخاص معزولين داخله. المشهد في الفيلم، حيث يتحدث موس وآرونو في المقهى، يتميز بجو مشابه للغاية، من حيث الإضاءة الخافتة والأجواء الكئيبة والعزلة التي تعكسها تلك اللحظة، مما يُضفي إحساساً مشابهاً للوحدة والاغتراب الموجود في لوحة هوبر.
المكالمة التعيسة
هناك مشهد لا يُنسى يريك براعة الممثل جاك ليمون، وكيف وصلت شخصية شيلي إلى الحضيض، والمشهد مكالمة فقط، لا ترى فيها الشخص الآخر ولا تسمعه، ترى فقط كلام وتصرفات شيلي، في هذا المشهد يحاول شيلي أن يبيع العقار لرجل اسمه داني، وترى من كلامه وتصرفاته المثيرة للشفقة كيف أن داني (لا نسمعه ولا نراه) يتضح أنه يخبر شيلي أنه لا يريد العقار وأنه يقول له “اغرب عني”، وترى كيف يذبل شيلي ويرضخ وينهي المكالمة، كل هذا يعتمد على تمثيل جاك ليمون لأننا لا نسمع كلام الطرف الثاني، إنه يمثل المشاعر التي تبدأ بالثقة والأمل وتنتهي بالذل والإحباط.
موس وجورج وعقدة الإرث التاريخي
يبدأ “ديف موس Dave Moss” حملة الإقناع مع جورج آرانو George Aaronow، وأتقنها ديف مستخدماً مهاراته البيعية، فبدأ تدريجيا يلمّح لأن وضع مندوبي المبيعات مثلهما في هذه الشركة سيء بسبب الرجلان اللذان يملكانها وهما ميتش و موري، ثم قالها صراحة وأخذ يلعنهما ويشتمهما أمام جورج، واضعا نفسه وجورج في جانب الخير والرئيسان الشريران في جانب الشر، شيئا فشيئا يحاول أن يستفز جورج ليحثه أن ينتقل من مجرد التفكير إلى التنفيذ، من مجرد ضحية يائسة بائسة إلى غاضب منتقم، لكن جورج ليس من هذا الصنف، إنه رجل مسالم ضعيف خانع، لا يمكن أن يفكر بإيذاء أحد، هنا يشرع ديف في محاولة صفيقة النية لكن بارعة الأسلوب، فجورج يهودي الأصل ويأتي ديف ليلعب على وتر الهولوكوست وهي المأساة الكبرى في حياة معظم يهود الغرب حيث عاشوها وأجدادهم الذين مات الكثير منهم في المعتقلات النازية، وأثناء الحوار يذكر ديف بشكل كأنه عرضي (لكنه مقصود) كيف أن النازيين ظهروا في أوروبا وانهيار واستسلام الناس لهم، ويربط بين موقف جورج الآن ويجعله في موقف يفكر فيه: ماذا أفعل أمام الشر؟ هل أستسلم أم أقاوم الأشرار؟ ديف ماهر فعلا في الإقناع والتواصل عندما يريد غرضه! لكنه دنيء، لا يتورع عن أي شيء يخدم غايته، ميتش ومو ري يتضح من سياساتهما أنهم قاسيان ولكن لم يبلغا من الشر درجة النازيين (لا نراهما في الفيلم أبدا بل نسمع بها فقط)، لا ندري ما دار في عقل جورج وقتها، هل يفكر أنه فعلا في وضع مثل أجداده وقت الحرب العالمية الثانية وأنه بين الخير والشر وعليه أن يتخذ قراره الآن؟ هل يشعر أنه عاجز عن المقاومة وأن الأشرار سيقتلون ليس روحه بل وظيفته؟ أم هل لم يقتنع بهذه المقارنة من الأساس؟ أم هل لم يربط بينهما نهائيا؟
ترى إرث الهولوكوست وأثرها في ردة فعل جورج لما انتهى تحقيق الشرطة معه في غرفة مديره، فيخرج مغتاظاً ثائراً يصرخ: “كيف تتكلم معي بهذه الطريقة؟” ورغم أن كل مندوبي المبيعات في المكتب حققت الشرطة معهم وكلهم أبدوا الضيق أو بعض الغضب إلا أن جورج أشدهم غضبا، ونعرف أن السبب هو أن المحقق قال لجورج: تعاون معنا وإلا سنأخذك لقسم الشرطة. وهو ما أثار ذكرى الهولوكوست لديه، فكأنه تذكر الضباط النازيين يطرقون البيوت ويأخذون اليهود لحتفهم، ولذلك يكمل جورج صراخه عليهم من خارج الغرفة: هذه أساليب الجستابو! هذه أساليب الجستابو!!
ريكي روما يحرق ويليامسون
مشهد ساحر لا يُنسى، مدير المكتب ويليامسون يتدخل في حوار بين ريكي وجيم لينك، ويفسد صفقة محتملة بلا فصد، مكلفاً ريكي آلاف الدولارات وكذلك الجائرة الكبرى (سيارة فاخرة) التي وُعِد بها المندوب الذي يحصل على أعلى مبيعات، فيصب عليه ريكي جام غضبه، ويمطره بأقذع الشتائم وأشنع السباب، ويقف مدير المكتب ويليامسون صامتاً عاجزاً أن يرد. كأنك تراه يشويه حياً!
في هجومه على ويليامسون، يستخدم روما لغة حادة وساخرة تحمل مزيجًا من الإهانات الشخصية والانتقادات المهنية. يصفه بالغباء وقلة الكفاءة، ويؤكد أنه لا يفهم أساسيات العمل أو أهمية التفاصيل الدقيقة التي يعتمد عليها الباعة. روما يجعل ويليامسون يشعر وكأنه عالة على الفريق، شخص غير قادر على فعل أي شيء سوى تدمير جهود الآخرين. رغم الثقة المصطنعة التي يظهرها ويليامسون وهو يتعامل بقسوة وبرود مع المناديب، إلا أنه في هذه اللحظة نرى جوهره الحقيقي، رجل مهزوز من الداخل لا يجرؤ أن يواجه انفجار روما، لأنه يعرف أن الكثير من كلامه فيه حق.
ما يميز هجوم روما هو أسلوبه البلاغي والدرامي، فهو لا يكتفي بالصراخ، بل يصيغ كلماته بأسلوب حواري يجعل الإهانات تبدو وكأنها حقائق لا جدال فيها!
خاتمة
هذا هو الفيلم الوحيد الذي حالما انتهيت من رؤيته رغبت بشدة أن أراه فورا بعدها مباشرة! تحفة فنية في فن الحوار، وتجربة لا تُنسى لكل من يقدر جمال الكلمة وقوة الأداء.